(واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32")
ومازال الكلام موصولاً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وبذلك انقسم الناس إلى قسمين: قسم متكبر حريص على جاهه وسلطانه، وقسم ضعيف مستكين لا جاه له ولا سلطان، لكن الحق سبحانه يريد استطراق آياته استطراقاً يشمل الجميع، ويسوي بينهم.
لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً موجوداً في الحياة، ففي الناس الكافر الغني والمؤمن الفقير، وعليك أن تتأمل موقف كل منهما. قوله تعالى:
{واضرب لهم مثلاً رجلين .. "32"}
(سورة الكهف)
قلنا: إن الضرب معناه أن تلمس شيئاً بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه، ولابد أن يكون الضارب أقوى من المضروب، إلا فلو ضربت بيدك شيئاً أقوى منك فقد ضربت نفسك، ومن ذلك قول الشاعر:
ويا ضارباً بعصاه الحجر ضربت العصا أم ضربت الحجر؟
وضرب المثل يكون لإثارة الانتباه والإحساس، فيخرجك من حالة إلى أخرى، كذلك المثل: الشيء الغامض الذي لا تفهمه ولا تعيه، فيضرب الحق سبحانه له مثلاً يوضحه وينبهك إليه؛ لذلك قال:
{واضرب لهم مثلاً رجلين .. "32"}
(سورة الكهف)
وسبق أن أوضحنا أن الأمثال كلام من كلام العرب، يريد في معنى من المعاني، ثم يشيع على الألسنة، فيصير مثلاً سائراً، كما نقول: جود حاتم، وتقابل أي جواد فتناديه: يا حاتم، فلما اشتهر حاتم بالجود أطلقت عليه هذه الصفة. وعمرو بن معد أشتهر بالشجاعة والإقدام، وإياس اشتهر بالذكاء، وأحنف بن قيس اشتهر بالحلم. لذلك قال أبو تمام في مدح الخليفة:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس
فأراد خصوم أبي تمام أن يحقروا قوله، وأن يسقطوه من عين الخليفة، فقالوا له: إن الخليفة فوق من وصفت، وكيف تشبه الخليفة بهؤلاء وفي جيشه ألف كعمرو، وفي خزانه ألف كحاتم فكيف تشبهه بأجلاف العرب؟ كما قال أحدهم: ـ
وشبهه المــداح في البـاس والغنى بمن لو رآه كان أصغر خادمٍ
في جيشه خمسون ألفاً كعنتر وفي خزانه ألف حاتم
فألهمه الله الرد عليهم، وعلى نفس الوزن ونفس القافية، فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس
إذن: فالمثل يأتي لينبه الناس، وليوضح القضية غير المفهومة، والحق تبارك وتعالى قال:
{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها .. "26" }
(سورة البقرة)
ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالاً كثيرة لتوضيح قضايا معينة، كما في قوله تعالى:
{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون "41"}
(سورة العنكبوت)
وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به:
{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً .. "92"}
(سورة النحل)