(وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا "35" )
تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع، هذه القضية هي التي تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التي تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم.
وبذلك ييأس الكسول الخامل، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط، وأنه إن تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل، وبذلك تزداد طاقة العمل ويرقى المجتمع ويسعد أفراده.
صحيح في المجتمع الإيماني إيثار، لكنه الإيثار الإيجابي النابغ من الفرد ذاته، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغصب فلا مجال لها في هذا المجتمع؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد.
وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أولى بهذه المحاربة. فما دمت قادراً على العمل فيجب أن تعمل، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس، ولهم حق مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعاً، وهذا هو التأمين الذي يكفله الإسلام لكل محتاج.
لذلك نقول للغني الذي يسهم في سد حاجة الفقير: لا تتأفف ولا تضجر إن أخذنا منك اليوم؛ لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدت وجمعت هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك، بل هي هبة من الله يمكن أن تنزع منك في أي وقت، وتتبدل قوتك ضعفاً وغناك حاجة، فإن حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونؤمن لك مستقبلك.
لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً، يعمل ويكدح ويسهم في رقي الحياة وإثرائها، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لأن المجتمع الإيماني لا يسوي بين العامل والقاعد، ولا بين النشيط والمتكاسل.
وهب أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي؛ الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسعى فيه بجد وعمل على تنميته، أما الآخر فكان مسرفاً منحرفاً بدد كل ما يملك وقعد متحسراً على ما مضى، فلا يجوز أن نسوي بين هذا وذاك، أو نأخذ من الأول لنعطي للآخر، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول ـ إذا أخذت ما ليس لها حملها الله ما ليس عليها.
ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غناه ثمرة عمله وكده ونتيجة سعيه، وطالما أنه يسير في ماله سيراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب، وبكل ما ليده من طموحات الحياة؛ لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى. فدعه يجتهد، وإن كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضاً، والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع.
لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً، فكم من العمال والصناع، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء.
إذن: علينا أن ندع الغني يجتهد ويسعى؛ لأن المجتمع سوف يستفيد من سعيه واجتهاده، وما عليك إلا أن تراقبه، فإن كان سعيه في الحق فبها ونعمت، وإن كان في غير الحق فلتضرب على يده. وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها، يقول تعالى:
{وأوفوا الكيل إذا كلتم .. "35"}
(سورة الإسراء)
والحديث هنا لا يخص الكيل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تقدر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتقاس بها الأشياء كل على حسبه، فالكتاب مثلاً يقاس بالسنتيمتر، والحجرة تقاس بالمتر، أما الطريق فيقاس بالكيلومتر وهكذا.
إذن: فالتقدير الطولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه. هذا في الطوليات، أما في المساحات فيأتي الطول والعرض، وفي الأحجام: الطول والعرض والارتفاع. وفي الكتل يأتي الميزان.
إذن: فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيل الذي يبين الأحجام، وبالميزان الذي يبين الكتلة؛ لأن الكيل لا دخل له في الكتلة، إنما الكتلة تعرف بالميزان، بدليل أن كيلو القطن مثلاً اكبر بكثير من كيلو الحديد.
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك يقول تعالى:
{وأوفوا الكيل إذا كلتم .. "35"}
(سورة الإسراء)