(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا "30" )
الله الذين لا تنفد خزائنه يعطي خلقه بقدرٍ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، ولا يقبضه عنهم كل القبض، بل يبسط على قوم، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة؛ لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس، وحدثت بينهم مقاطعة تفسد عليهم حياتهم.
إنما حركة الحياة تتطلب أن يحتاج صاحب المال إلى عمل، وصاحب العمل إلى مال، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض، وبذلك يتكامل الناس، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة.
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنساناً مجمعاً للمواهب، بل المواهب موزعة بين الخلق جميعهم، فأنت صاحب موهبة في مجال، وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا، ليظل الناس يحتاج بعضهم لبعض.
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبر به على الناس يحوجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها، ولابد له منها لكي يزاول حركة الحياة.
والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضل الناس على الناس، بل لابد أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض.
فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البسط، ولا يقبض عنهم كل القبض، بل يقبض ويبسط، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة؛ لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم، وعلى العبد أن يرضى بما قسم له في الحالتين، وأن يسير في حركة حياته سيراً يناسب ما قدره الله له من الرزق. يقول تعالى:
{ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله .. "7"}
(سورة الطلاق)
أي: من ضيق عليه الرزق فلينفق على قدره، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا، وتوفر له سلامة العيش.
ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه؛ لأن الذي يتعب الناس في الحياة ويشقيهم أن ترى الفقير الذي ضيق عليه في الرزق يريد أن يعيش عيشة الموسع عليه رزقه، ويتطلع إلى ما فضل الله به غيره عليه.
فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب:
الأول: غني وفي سعةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه.
والآخر: فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة.
فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما، فعلى الفقير ألا ينظر إلى وضعه الوظيفي، بل إلى وضعه ومستواه المادي، فيشتري بما يتناسب معه، ولا يطمع أن يكون مثل زميله؛ لأن لكل منهما قدرة وإمكانية يجب ألا يخرج عنها.
هذه هي النظرية الاقتصادية الدقيقة، والتصرف الإيماني المتزن؛ لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويرضى بما قسمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه، يقول له الحق سبحانه: لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك، ثم يعطيه ويوسع عليه بعد الضيق.
وهذا مشاهد لنا في الحياة، والأمثلة عليه واضحة، فكم من أناس كانوا في فقر وضيق عيش، فلما رضوا بما قسمه الله ارتقت حياتهم وتبدل حالهم إلى سعة وترف.
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسان نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض، ولا ينسى هذه الحقيقة، فيظن أنه أصيل فيها.
والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك، ممدود ممن أمدك، فإياك أن تغتر، وإياك أن تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدره الله لك.
فإن اعتبرت نفسك أصيلاً ضل الكون كله؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دولاً، فالذي وسع عليه اليوم قد يضيق عليه غداً، والذي ضيق عليه اليوم قد يوسع عليه غداً وهذه سنة من سنن الله في خلقه ليدك في الإنسان غرور الاستغناء عن الله.
فلو متع الله الإنسان بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب ارزقني، ولو متعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب اشفني. لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه.
وقد قال تعالى:
{كلا إن الإنسان ليطغى "6" أن رآه استغنى "7" }
(سورة العلق)