(ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا "32" )
بعد أن تحدث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع، ويوفر له الحياة الكريمة. والإنسان منا حينما يرزق بالولد أو البنت يطير به فرحاً، ويؤثره على نفسه، ويخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده، ويسعى جاهداً ليوفر له رفاهية العيش، ويؤمن له المستقبل المرضي، وصدق الشاعر حين قال:
إنما أولادنا أكبادناَ تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضــهم امتنعت عيني عن الغمض
لكن هذا النظام التكافلي الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دب الشك إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه، فتتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به؛ لأنه طعن في ذاته هو.
لذلك يحذرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ من هذه الجريمة النكراء؛ ليحفظ على الناس أنسابهم، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه، فيحنو عليهم ويرعاهم، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم. فيقول تعالى:
{ولا تقربوا الزنى .. "32" }
(سورة الإسراء)
والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يكلمنا عن الأوامر يذيل الأمر بقوله تعالى:
{تلك حدود الله فلا تعتدوها .. "229" }
(سورة البقرة)
والحديث هنا عن أحكام الطلاق، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد، والممنوع أن نتعداه. وأما في النواهي، فيذيلها بقوله:
{تلك حدود الله فلا تقربوها .. "187"}
(سورة البقرة)
والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، وكأن الحق سبحانه يريد ألا نصل إلى الحد المنهي عنه، وأن يكون بيننا وبينه مسافة، فقال (فلا تقربوها) لنظل على بعد من النواهي، وهذا احتياط واجب حتى لا نقترب من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
فالحق سبحانه خالق الإنسان، وهو أعلم به لا يريد له أن يقترب من المحظور؛ لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها؛ لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب، وفرق بين الفعل وقربان الفعل، فالمحرم المحظور هنا هو الفعل نفسه، فلماذا إذن حرم الله الاقتراب أيضاً، وحذر منه؟
نقول: لأن الله تعالى يريد أن يرحم عواطفك في هذه المسألة بالذات، مسألة الغريزة الجنسية، وهي أقوى غرائز الإنسان، فإن حمت حولها توشك أن تقع فيها، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلم لك.
وحينما تكلم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسموها إلى ثلاث مراحل: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيت به وردة جميلة، فلحظة أن نظرت إليها هذا يسمى "الإدراك"؛ لأنك أدركت وجودها بحاسة البصر، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حبها فهذا يسمى "الوجدان" أي: الانفعال الداخلي لما رأيت، فإذا مددت يدك لتقطفها فهذا "نزوع" أي: عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع،ولا يمنعك من الإدراك، أو من الوجدان، إلا في هذه المسألة "مسألة الغريزة الجنسية" فلا يمكن فيها فصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفصل بينها.
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تولد إعجاباً وميلاً، ثم عشقاً وغريزة عنيفة تدعوه أن تمتد يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أن ينزع ويلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أن يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خلقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم يحرم الزنا فحسب، بل حرم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. "30" }
(سورة النور)
لأنك لو أدركت لوجدت، ولو وجدت لنزعت، فإن أخذت حظك من النزوع أفسدت أعراض الناس، وإن عففت عشت مكبوتاً تعاني عشقاً لن تناله، وليس لك صبر عنه.
إذن: الأسلم لك وللمجتمع، والأحفظ للأعراض وللحرمات أن تغض بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان، فيغش الإنسان نفسه بالاختلاط المحرم، وإذا ما سئل ادعى البراءة وحسن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله، وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله، وما أمره بغض بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار، إما تعود على المجتمع، أو على نفسه.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه". ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله:
{ولا تقربوا الزنى .. "32" }
(سورة الإسراء)
ولم يقل: لا تزنوا. لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أن تجعل نفسك على مقربة منها؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ودعك ممن ينادون بالاختلاط والإباحية؛ لأن الباطل مهما علا ومهما كثر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام.