(وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون " 118")
الحق سبحانه وتعالى حين قال: "الذين لا يعلمون" .. أي لا يعلمون عن كتاب الله شيئا لأنهم كفار .. وهؤلاء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله .. ومعنى أن يكلمهم الله أن يسمعوا كلاما من الله سبحانه .. كما سمع موسى كلام الله. وماذا كانوا يريدون من كلام الله تبارك وتعالى .. أكانوا يريدون أن يقول لهم الله إنه أرسل محمداً رسولا ليبلغهم بمنهج السماء .. وكأن كل المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ـ وعلى رأسها القرآن الكريم ـ لم تكن كافية لإقناعهم .. مع أن القرآن كلام معجز وقد أتى به رسول أمي .. سألوه عن أشياء حدثت فأوحى الله بها إليه بالتفصيل .. جاء القرآن ليتحدى في أحداث المستقبل وفي أسرار النفس البشرية .. وكان ذلك يكفيهم لو أنهم استخدموا عقولهم ولكنهم أرادوا العناد كلما جاءتهم آية كذبوا بها وطلبوا آية أخرى .. والله سبحانه وتعالى قد أبلغنا أنه لا يمكن لطبيعة البشر أن تتلقى عن الله مباشرة .. واقرأ قوله سبحانه:
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء }
(من الآية 51 سورة الشورى)
إذن فالبشر حتى المصطفى من الله والمؤهل للتلقي عن الله .. لا يكلمه الله إلا وحيا أو إلهام خاطر أو من وراء حجاب كما كلم موسى .. أو يرسل رسولا مبلغا للناس لمنهج الله .. أما الاتصال المباشر فهو أمر تمنعه بشرية الخلق. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: "أو تأتينا آية" .. والآيات التي يطلبها الكفار ويأتي بها الله سبحانه وتعالى ويحققها لهم .. لا يؤمنون بها بل يزدادون كفرا وعنادا .. والله جل جلاله يقول:
{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}
(من الآية 59 سورة الإسراء)
إذن فالآيات التي يطلبها الكفار ليؤمنوا لا تجعلهم يؤمنون .. ولكن يزدادون كفرا حتى ولو علموا يقينا أن هذه الآيات من عند الله سبحانه وتعالى كما حدث لآل فرعون .. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
{فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين "13" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين "14"}
(سورة النمل)
وهكذا فإن طلبها أن يكلمهم الله أو تأتيهم آية كان من باب العناد والكفر والحق سبحانه يقول: "كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم" .. فبنو إسرائيل قالوا لموسى أرنا الله جهرة .. الذين لا يعلمون قالوا لولا يكلمنا الله .. ولكن الذين قالوا أرنا الله جهرة كانوا يعلمون لأنهم كانوا يؤمنون بالتوراة .. فتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون .. لذلك قال الله تبارك وتعالى: "تشابهت قلوبهم" .. أي قلوب أولئك الذين كانوا خاضعين للمنهج والذين لا يخضعون لمنهج قد تشابهت بمنطق واحد. ولو أن الذين لا يعلمون قالوا ولم يقل الذين يعلمون لهان الأمر .. وقلنا جهلهم هو الذي أوحى إليهم بما قالوا .. ولكن ما عذر الذين علموا وعندهم كتاب أن يقولوا أرنا الله جهرة .. إذن فهناك شيء مشترك بينهم تشابهت قلوبهم في الهوى .. إن مصدر كل حركة سلوكية أو حركة جارحة إنما هو القلب الذي تصدر عنه دوافع الحركة .. ومادام القلب غير خالص لله فيستوى الذي يعلم والذي لا يعلم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" .. ما هو اليقين؟ هو استقرار القضية في القلب استقرارا لا يحتمل شكا ولا زلزلة .. ولا يمكن أن تخرج القضية مرة أخرى إلي العقل .. لتناقش من جديد لأنه أصبح يقينا .. واليقين يأتي من إخبار من تثق به وتصبح أخباره يقينا .. فإذا قال الله قال اليقين .. وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فكلامه حق .. ولذلك من مصداقية الإيمان أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه .. عندما قيل له إن صاحبك يقول إنه صعد به إلي السماء السابعة وذهب إلي بيت المقدس في ليلة واحدة .. قال إن كان قد قال فقد صدق. إن اليقين عنده نشأ من إخبار من يثق فيه وهذا نسميه علم يقين .. وقد يرتقي الأمر ليصير عين يقين .. عندما ترى الشيء بعينك بعد أن حدثت عن رؤية غيرك له .. ثم تدخل في حقيقة الشيء فيصبح حق يقين .. إذن اليقين علم إذا جاء عن إخبار من تثق به .. وعين يقين إذا كان الأمر قد شوهد مشاهدة العين .. وحق يقين هو أن تدخل في حقيقة الشيء .. والله سبحانه وتعالى يشرح هذا في قوله تعالى:
{ألهاكم التكاثر "1" حتى زرتم المقابر "2" كلا سوف تعلمون "3" ثم كلا سوف تعلمون "4" كلا لو تعلمون علم اليقين "5" لترون الجحيم "6" }
(سورة التكاثر)
هذه هي المرحلة الأولى أن يأتينا علم اليقين من الله سبحانه وتعالى .. ثم تأتي المرحلة الثانية في قوله تبارك وتعالى:
{ثم لترونها عين اليقين "7"}
(سورة التكاثر)
أي أنتم ستشاهدون جهنم بأعينكم يوم القيامة .. هذا علم يقين وعين يقين .. يأتي بعد ذلك حق اليقين في قوله تعالى:
{وأما إن كان من المكذبين الضالين "92" فنزل من حميم "93" وتصلية جحيم "94" إن هذا لهو حق اليقين "95" }
(سورة الواقعة)
والمؤمن عافاه الله من أن يعاين النار كحق يقين .. إنه سيراها وهو يمر على الصراط .. ولكن الكافر هو الذي سيصلاها حقيقة يقين .. ولقد قال أهل الكتاب لأنبيائهم ما يوافق قول غير المؤمنين .. فاليهود قالوا لموسى: "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" .. والمسيحيون قالوا لعيسى: "هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء" قال: "اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" .. وهكذا شجع المؤمنون بالكتاب غير المؤمنين بأن يطلبوا رؤية الله ويطلبوا المعجزات المادية.