( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون"78")
الله سبحانه وتعالى لازال يتحدث عن أهل الكتاب .. فبعد أن بين لنا الذين يقول: "أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم" .. انتقل سبحانه وتعالى إلي طائفة أخرى وهم من أسماهم بالأميين .. وأصح قول في الأمي هو أنه كما ولدته أمه. أي لم يعلم شيئاً من ثقافة وعلم في الوجود منذ لحظة نزوله من بطن أمه. ولذلك فإن الأمي على إطلاقه هو الذي لا يكتسب شيئاً من ثقافة الوجود حوله، بصرف النظر عن أن يقال كما ولدته أمه .. لأن الشائع في المجتمعات أن الذي يعلم هم الخاصة لا العامة .. وعلى أية حال فالمعاني كلها ملتقية في تعريف الأمي.
قوله تعالى: "ومنهم أميون" .. تلاحظ أن هناك معسكرات من الأميين واجهت الدعوة الإسلامية .. فالمعسكر الأول كان المشركون في مكة، والمعسكر الثاني كان أهل الكتاب في المدينة. وأهل الكتاب تطلق على أتباع موسى وأتباع المسيح .. ولكن في الجزيرة العربية كان هناك عدد لا يذكر من النصارى .. وكان هناك مجتمع. والمقصود من قوله تعالى: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة .. ومادام الحق سبحانه وتعالى قال: "ومنهم أميون" .. معنى هذا أنه لابد أن يكون هناك منهم غير أميين .. وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية:
{فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }
(من الآية 79 سورة البقرة)
هنا قسم الله تبارك وتعالى اليهود إلي أقسام .. منهم قسم أمي لا يعرفون الكتاب وما يقوله لهم أحبارهم هو الذي يعرفونه فقط .. وهؤلاء ربما لو كانوا يعلمون ما في التوراة .. من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا به .. والكتاب هنا يقصد به التوراة .. والله سبحانه وتعالى لم ينف عنهم مطلق العلم .. ولكنه نفى خصوصية العلم، لأنه قال لا يعلمون إلا أماني .. فكأن الأماني يعلمونها من الكتاب. ولكن ما الأماني؟ .. إنها تطلق مرة بدون تشديد الياء ومرة بتشديد الياء .. فإن كانت التخفيف تكون جمع أمنية .. وإن كانت بالتشديد تكون جمع أمنية بالتشديد على الياء .. الأمنية تجدها في القرآن الكريم في قوله تعالى:
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به }
(من الآية 123 سورة النساء)
هذه بالنسبة للجمع. أما بالنسبة للمفردة .. في قوله تعالى:
{وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته }
(من الآية 52 سورة الحج)
ما هي الأمنية؟ .. الأمنية هي الشيء الذي يحب الإنسان أن يحدث ولكن حدوثه مستحيل .. إذن لن يحدث ولن يكون له وجود .. ولذلك قالوا إن من معاني التمني اختلاق الأشياء .. الشاعر الذي قال:
ألا ليـت الشـباب يـعـود يـومـاً
فأخـبره بـمـأ فـعـل المشـيـب
هل الشباب يمكن أن يعود؟ .. طبعاً مستحيل .. هذا شيء لن يحدث .. والشاعر الذي قال:
ليـت الكـواكب تـدنو لي فأنظمـها
عقـود مـدحٍ فـما أرضي لـكم كـلم
هل النجوم ستنزل من السماء وتأتي إلي هذا الشاعر .. ينظمها أبيات شعر إلي حبيبته .. إذن من معاني التمني الكذب والاختلاق. ولقد فسر بعض المستشرقين قول الله تبارك وتعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى (أي قرأ): "ألقى الشيطان في أمنيته" (أي في قراءته) .. وطبعا الشيطان لن يلقي في قراءة الرسول إلا كذبا وافتراء وكفرا .. اقرأ قوله سبحانه:
{أفرأيتم اللات والعزى "19" ومناة الثالثة الأخرى "20" ألكم الذكر وله الأنثى "21" تلك إذا قسمة ضيزى }
(سورة النجم)
قال أعداء الإسلام مادام قد ذكر في القرآن أسماء الغرانيق .. وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار .. ومنها اللات والعزى قال أعداء الإسلام مادام قد ذكر في القرآن الغرانيق .. وهي الأصنام التي كان يعبدها الكفار .. ومنها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى .. إذن فشفاعة هذه الأصنام ترتجي في الآخرة .. وهذا كلام لا ينسجم مع منطق الدين كله يدعو لعبادة الله وحده .. وخرج المستشرقون من ذلك بأن الدين فعلا يدعو لعبادة الله وحده .. إذن فيكون الشيطان قد ألقى في أمنيته فيما يقوله رسول الله .. ثم أحكم الله سبحانه آياته فقال تعالى:
{إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}
(من الآية 23 سورة النجم)