(ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "42")
بعد أن حذر الحق سبحانه وتعالى اليهود من أن يبيعوا دينهم بثمن قليل وهو المال أو النفوذ الدنيوي. قال تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل" مادة تلبس. مأخوذة من اللباس الذي نرتديه. واللبس هو التغطية أو التعميمة بأن نخفي الحق ولا نظهره. فاللباس تغليف للجسم يستره فلا يبين تفصيلاته .. والحق هو القضية الثابتة المقدرة التي لا تتغير. فلنفرض أننا شهدنا شيئا يقع. ثم روي كل منا ما حدث. إذا كنا صادقين لن يكون حدثنا إلا مطابقا للحقيقة. ولكن إذا كان هناك من يحاول تغيير الحقيقة فيكون لكل منا رواية. وهكذا فالحق ثابت ولا يتغير.
في التوراة آيات لم يحرفها اليهود .. وآيات محرفة. كل الآيات التي تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه .. وأنه النبي الخاتم .. حرفها اليهود. والآيات التي لا تتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرفوها .. فكأنهم خلطوا الحق بالباطل .. ما الذي جعلهم يدخلون الباطل ويحاولون إخفاء الحقائق؟ المصلحة الأولى: ليشتروا بآيات الله ثمنا قليلا .. والباطل هو ما لا واقع له. ولذلك فإن أبواب الباطل متعددة. وباب الحق واحد فالله سبحانه وتعالى يريد أن يبلغنا أن اليهود قد وضعوا في التوراة باطلا لم يأمر به الله. وكتموا الحقيقة عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن هل فعلوا ذلك عن طريق الخطأ أو السهو أو النسيان؟ لا بل فعلوه وهم يعلمون. نأتي مثلا إلي قول الحق تبارك وتعالى لليهود:
{وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
(من الآية 58 سورة البقرة)
وحطة أي حط عنا يا رب ذنوبنا. يأتي اليهود ويغيرون قول الله. فبدلا من أن يقولوا حطة. يقولوا حنطة. من يسمع هذا اللفظ قد لا يتنبه ويعتقد أنهم قالوا ما أمرهم الله به. مع أن الواقع أنهم حرفوه. ولذلك عندما كانوا يأتون إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: راعنا ليا بألسنتهم. وكان المفروض أن يقولوا راعينا .. ولكنهم قالوا راعنا من الرعونة .. والله تعالى نبه المؤمنين برسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقولوا مثلهم. فقال جل جلاله: "لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا". أي اتركوا هذه الكلمة نهائيا، هذا لبس الحق بالباطل. إذن فاليهود ألبسوا الحق بالباطل. والإنسان لا يلبس الحق بالباطل .. إلا إذا كان لا يستطيع مواجهة الحق. لأن عدم القدرة على مواجهة الحق ضعف نفر منه إلي الباطل، لأن الحق يتعب صاحبه .. والإنسان لا يستطيع أن يحمل نفسه على الحق.
وقوله تعالى: "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي أنهم يفعلون ذلك عن عمد وليس عن جهل. فقد يكتم الإنسان حقا وهو لا يعلم أنه الحق. ولكن إذا كنت تعلمه فتلك هي النكبة لأنك تخفيه عامدا متعمدا. أو وأنتم تعلمون. قد يكون معناها أن اليهود ـ وهم أهل الكتاب ـ يعلمون ما سيصيبهم في الآخرة من العذاب الأليم .. بسبب إخفائهم الحق. فهم لا يجهلون ماذا سيحدث في الآخرة. ولكنهم يقدمون على عملهم مع علمهم أنه خطأ فيكون العذاب حقا.