(في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم "220")
إن الحق يبدأ هذه الآية بقوله: "في الدنيا والآخرة" وكأنه يقول لنا: إياك أن تعتقدوا أن كل تكليف من الله جزاؤه في الآخرة فقط، أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا. وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الأخلاق في حياتهم تجدهم قد أخذوا جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل: كيف ربى فلان أولاده، وكيف علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟ هم لا يعلمون أن يد الله معه بالبركة في كل حركات حياته. فلا تظن أن الجزاء مقصور على الآخرة فقط، بل يعجل الله بالجزاء في الدنيا، أما الآخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الآخرة بفضل الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته". وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة، ويرى كيف يعيشون وكيف ينفقون على أولادهم، ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل والعقد النفسية. وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم، إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة ويخرجنا من أهواء النفوس. ونقول بعد أن استكمل الحق الكلام عن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، بين لنا صنفين من المجتمع: أما الصنف الأول فهو الصنف المنافق الذي لا ينسجم منطقه مع واقع قلبه ونفسه:
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام "204" وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد "205"}
(سورة البقرة)
وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع، لا، إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق: "اتق الله" أخذته العزة بالإثم!!. والصنف الآخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيداً، وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون فيه الخير لمنهج الله. فقال سبحانه:
{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد "207"}
(سورة البقرة)
ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة، والدخول في السلم أي الإسلام يطلب منا أن ندخل جميعاً في كل أنواع السلم في الحياة، سلم مع نفسك فلا تتعارض ملكاتك، فلا تقول قولاً يناقض قلبك، وسلم مع المجتمع الذي تعيش فيه، وسلم مع الكون الذي يخدمك جماداً ونباتاً وحيواناً، وسلم مع أمتك التي تعيش فيها، فقال سبحانه:
{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين "208"}
(سورة البقرة)
كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق، وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلامة والأمن في كل أطوار هذه الحياة، فإن رأيت خللاً أو اضطراباً في الكون، أو رأيت خوفاً أو قلقاً فاعلم أن منهجاً من مناهج الإسلام قد عطل. والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن الله عزيز حكيم فلا يغلبه أحد، ولا يقدر عليه أحد، فهو القادر القوي الذي يجري كل شيء بحكمة، فلا تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى الله بالزلل عن منهجه، وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلي أبناء جنسكم؛ لأن الله لا يغلب.
وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر، إنه يلفتنا إلى أننا لا نملك أمر الساعة، فالساعة تأتي بغتة ومفاجئة، وصاخة طامة، مرجفة مزلزلة. فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها. وكل ذلك لندخل أيضا في السلام في اليوم الآخر، وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن ليست مجرد كلمات نظرية، ولكنها الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ الأمم التي سبقت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان، وشقوا هم، وشقي بهم المجتمع، إذن فالكلام ليس كلاماً نظرياً. ويريد الله لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة، وألا ننظر إلى سطحيات الأمور، فيجب ألا تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة؛ لأن الحياة الدنيا أمدها قصير، وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها، وأعمارنا فيها قصيرة؛ لأن منا من يموت كبيراً ومنا من يموت صغيراً.
ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملاً، وإنما أرسل لهم رسلاً يبينون لهم منهج الله، فكان الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الأهواء في نفوسهم، ومع ذلك رحمهم الله فلم يسلمهم إلى الأهواء، بل استمر موكب الرسالات في البشر، وكلما غلبتهم الأهواء وطم الفساد، أرسل الحق برحمته رسولا لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه الله بخلود منهجه، وجعل القيم في أمته. وصارت الأمة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة في الأرض؛ لأن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.