الله به عليم "215")
والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا فقال: يا رسول الله، إن مالي كثير فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط، بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين. والسؤال عن "ماذا ينفقون"؛ فكأن الشيء المنفق هو الذي يسألون عنه، والإنفاق ـ كما نعرف ـ يتطلب فاعلاً هو المنفق؛ والشيء المنفق ـ هو المال ـ؛ ومنفقا عليه. وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون، فكأن أمر الإنفاق أمر مسلم به، لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد.
يقول الحق: "يسألونك ماذا ينفقون" هذا هو السؤال، والجواب "قل ما أنفقتكم من خير فللوالدين". إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن المنفق عليه. نقول: لا، لماذا نسيت قوله الحق: إن الإنفاق يجب أن كون من "خير" فالمال المنفق منه لابد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير. وبعد ذلك زاد وبين أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق يجب أن يكون من "خير" فالمال المنفق منه لابد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير.
وبعد ذلك زاد وبين أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي ينفقونه، ومن الذي يستحق أن ينفق عليه. "قل ما أنفقتم من خير". والخير هو الشيء الحسن النافع. والمنفق عليه هو دوائر الذي ينفق؛ لأن الله يريد أن يحمل المؤمن دوائره الخاصة، حتى تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمل المجتمع على كل المجتمع، لأنه سبحانه حين يحملني أسرتي ووالدي والأقربين، فهذه صيانة للأهل، وكل واحد منا له والدان وأقربون، ودائرتي أنا تشمل والدي وأقاربي، ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين. وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين، ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضا، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل. وعرفنا أن السائل هو "عمرو بن الجموح"، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله في الجهاد، فليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج.
وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال: يا رسول الله لا تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من الخروج لعرجتي. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد عذرك فيمن عذر. قال: ولكني يا رسول الله أحب أن أطأ بعرجتي الجنة. هذا هو من سأل عن ماذا ينفقون، فجاءت الإجابة من الحق: "قل ما أنفقتم من خير" أي ما أخرجتم من مال؛ لأن الإنفاق يعني الإخراج، والخير هنا هو المال، والإنفاق يقتضي إخراج المال عن ملكية الإنسان ببيع أو هبة أو صلة، وأصل كلمة "الإنفاق" مأخوذ من "نفقت السوق" أي راجت؛ لأن السوق تقوم على البضاعة، وحين تأتي إلى السوق ولا تجد سلعاً فذلك يعني أن السوق رائجة، ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لازالت قائمة.
إذن فمعنى "نفقت السوق" أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة، فعندما نقول: نفقت الدابة، أي ماتت. وأوجه الإنفاق بينها ـ سبحانه ـ في قوله: "فللوالدين، والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل". فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط، ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من زوايا الضعف؛ لأن الطفل عندما يكون يتيماً ولديه ماله، ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه لم يمت؛ لأن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين، وبعد ذلك لا يشب على الحسد لأولاد آباؤهم موجودين، لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغولا بأبنائه عن أيتام مات أبوهم، هنا يظهر فيه الحقد، وتتربى فيه غريزة الاعتراض على القدر، فيقول "لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟"، ولكن حين يرى الناس جميعا آباءه، ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من له أب واحد يتركه الناس اعتماداً على وجود أبيه، لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه بالمودة والمحبة، ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع الإسلامي والألفة والرضا بقدر الله، ولا يعترض أحد على وفاة أبيه، فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين.
ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لأن والده ترك له ما يكفيه، لو علموا ما يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة مادية، وإنما هي حاجة معنوية. وأنا أقول دائما: يجب أن نربي في الناشئة أن الله لا يأخذ أحداً من خلقه وفي الأرض حاجة إليه؛ وارقبوا هذا الأمر فيمن حولكم تجدوا واحداً وقد توفى وترك أولاداً صغاراً فيحزن أهله ومعارفه؛ لأنه ترك أولاده صغاراً، وينسون الأمر من بعد ذلك، وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن أولاد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي، وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم، فحينما انتهى الأب فتح الله على الأبناء صنابير الرزق، وذلك حتى لا يفتن إنسان في سبب.
وبعد الإنفاق على اليتامى نجد الإنفاق على المساكين وابن السبيل، وقد عرفنا أن المسكين هو المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله. ويختم الحق هذه الآية بقوله: "وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم". إن الله يريد أن يرد الطبع البشري إلى قضية هي: إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلاء من أحد من الخلق، ولكن اطلبه من الله، وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك منفق على الأقارب واليتامى وابن السبيل؛ لأن الذين تريدهم أن يعلموا لا يقدرون لك على جزاء، وعلمهم أن يزيدك شيئا، وحسبك أن يعلم الله الذي أعطاك، والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته. فحين ينفق الناس لمرضاة الناس، يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق، واستبقى الشر ممن أنفقه عليهم.
ولو أن الإنسان المسلم قصد بالإنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق الأعلى عز وجل لاستبقى ما أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة، ولسخر الله له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء بالمعروف، وهذه عدالة من الله تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لأنهم يعطون وفي بالهم أنهم أعطوا له، ولو أعطوا الله لما أنكر الآخذ جميل العطاء. أنت أعطيته لمرضاته هو، فكأن الله يقول لك: سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فمنهم:
".. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" وهذا هو الأفضل في صدقة التطوع، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها افضل، وكذلك الحال بالنسبة للصلاة فالفريضة تكون إعلانها افضل، والنافلة يكون إسرارها افضل. لكن لو عملت وفي بالك الله فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ. فإياك أن تحاول ولو من طرف خفي أن يعلم الناس أنكم تفعلون الخير. وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" يرج الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال فيقول: