(هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور "210")
أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب. وقوله: "هل ينظرون" مأخوذة من النظر. والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق. وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يسمى نظرا. ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في أي مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟ إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يطلق النظر على الانتظار، وهو طلب إدراك ما يتوقع.
و"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله"، يعني هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها. وساعة نسمع قوله تعالى: "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله" نقول: ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟
و"إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغيام والملائكة" ساعة تقول: "يأتيهم الله" أو "جاء ربك" أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد، فلتأخذه في إطار "ليس كمثله شيء" فالله موجود وأنت موجود، فهل وجودك كوجوده؟ لا. إن الله حي وأنت حي، أحياتك كحياته؟ لا. والله سميع وأنت سميع، أسمعك كسمعه؟ لا. والله بصير وأنت بصير، أبصرك كبصره؟ لا. ومادمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك، فتأخذها بالنسبة لله في إطار "ليس كمثله شيء".
ولذلك يقول المحققون: إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن في إطار لا يختلف عنه عما في أنه "ليس كمثله شيء"، وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلاف ما تتصور، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك، فبال الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له، ومادامت صورا معلومة فهي في خلق الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه. إن ساعة يتجلى الحق، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة، أنه سبحانه على غير ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبداً؛ لأنه لو كانت صورة الحق في بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره، وهو القادر لا ينقلب مقدوراً عليه أبداً، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره مادياً. ولذلك ضرب الله لنا مثلاً يقرب لنا المسألة، فقال:
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون "21"}
(سورة الذاريات)
إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة، وعاد بعد ذلك إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد، هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها، أو تحديد مكانها أو شكلها، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها، فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟ "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله" يعني بما لم يكن في حسبانهم. هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس كورت والنجوم انكدرت، وكل شيء في الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم. فماذا ينتظرون؟.
إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم وينهي أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث. ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئاً يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار "ليس كمثله شيء". فكما أنك أمنت بأن لله ذاتاً لا كالذوات، فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات، وأن لله أفعالاً ليست كالأفعال، فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في الصفات التي قال الله فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس، فإذا كان الله يجئ؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك مكاناً إلى مكان، فهو سبحانه يكون في مكان بما لا يخلو عنه مكان، تلك هي العظمة.
فإذا قيل: "إلا أن يأتيهم الله" فلا تظن أن إتيانه كإتيانك، لأن ذاته ليست كذاتك، ولأن الناس في اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم، فإذا كان الناس يختلفون في الأفعال باختلاف منازلهم، وفي الصفات باختلاف منازلهم، فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور، ولنأخذ كل شيء يتعلق به في إطار "ليس كمثله شيء"؛ ففعل ربك يختلف عن فعلك. وإياك أن تخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى علاج وإلي زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك، والله لا يفعل الأشياء بعلاج بحيث تأخذ منه زمنا ولكنه يقول: "كن فيكون".
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر في أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجئ الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده. و"في ظلل من الغمام". فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذي يظللك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظللك إلا أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد. وكلمة "ظلل" معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال:
{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله}
(من الآية 32 سورة لقمان)
أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطاً بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل عليه برداً وسلاماً؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجئ بشيء لم يكن في حسابه. وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر. وعندما تسمع "قضى الأمر" فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح:
{وقضى الأمر واستوت على الجودي}
(من الآية 44 سورة هود)
أي انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه. فالله يقول: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة. "وإلى الله ترجع الأمور"، ومرة تأتي "وإلى الله ترجع الأمور". وفيه فرق بين "ترجع الأمور" بفتح التاء وبين "تُرجع الأمور" بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره، أما غير الراغب والذي كان لا يرجو لقاء ربه فسيرجع بالرغم عنه، تأتي قوة أخرى ترجعه، فمن لم يجئ رغباً يأتي رهبا.
ويقول الحق بعد ذلك: