(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين"208")
تبدأ الآية بنداء الذين أمنوا بالله وكأنه يقول لهم: يا من أمنتم بي استمعوا لحديثي. فلم يكلف الله من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وأمنوا به، وماداموا قد أحبوا الله فلابد أن يتجه كل مؤمن إلى من يحبه؛ لأن الله لن يعطيه إلا ما يسعده. إذن فالتكليف من الله إسعادً لمن أحب، "يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة"، وكلمة "في" تفيد الظرفية، ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا، مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول: "الماء في الكوب"، وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول: "المصلون في المسجد". والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف، ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فلا جهة يفلت منها المظروف من الظرف. ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة الظرفية عندما يقول:
{ولأصلبنكم في جذوع النخل}
(من الآية 71 سورة النخل)
إن الصلب دائما يكون على شيء، وتشاء الآية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب متمكنا من المصلوب. فأنت إذا أردت أن تصلب شيئا على شيء فأنت تربطه على المصلوب عليه، فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه. ومثال ذلك، هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيداً، ستلاحظ أن العود قد غاص في جلدك. والحق يقول: "ادخلوا في السلم كافة" والسًلم والسًلمُ والسًلَم هو الإسلام، فالمادة كلها واحدة؛ لأن السلم ضد الحرب، والإسلام جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلام مع الله وفي سلام مع الكون، وفي سلام مع الناس. وفي سلام مع نفسك.
قوله: "ادخلوا في السلم" معناه حتى يكتنفكم السلم. إن الله هو الإله الخالق للكون ولابد أن تعيشوا في سلام معه؛ لأنكم لا تؤمنون إلا به إلهاً واحداً. فيجب علينا أن نعيش مع الأرض والسماء والكون في سلام؛ لأن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي لا يملك أن يخرج عما رسم له يعمل لخدمتك ولا يعاندك.
والإنسان حين يكون طائعاً يسر به كل شيء في الوجود؛ لأن الوجود طائع ومسبح، فساعة يجد الإنسان مسبحاً مثله يسر به لأنه في سلام مع الكون. وأنت في سلام مع نفسك؛ لأن لك إرادة، وهذه الإرادة قهر الله لها كل جوارحك، والذي تريده من أي عضو يفعله لك، لكن هل يرضى أي عضو عما تأمره به؟ تلك مسألة أخرى، مثلا، لسانك ينفعل بإرادتك، فتقول به: "لا إله إلا الله" وقال الملحدون بألسنتهم والعياذ بالله: "لا إله في الكون" ولم يعص اللسان أحداً من هؤلاء لأنه مقهور لإرادتهم.
وتنتهي إرادة الإنسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه سائر أعضائه: الأرجل، والأيدي، والعيون، والآذان، وكل عضو يقر بما كان يفعل به، لأنه لا سيطرة للإنسان على تلك الأبعاض في هذا اليوم. إنما السيطرة كلها للخالق الأعلى. "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار". والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين ألا يأخذوا بعضاً من الدين، ويتركوا البعض الآخر، فيقول لهم: خذوا الإسلام كله وطبقوه كاملاً؛ لأن الإسلام يمثل بناء له أسس معلومة، وقواعد واضحة، فلا يحاول أحد أن يأخذ شيئاً من حكم بعيداً عن حكم آخر، وإلا لحدث الخلل.
وعلى سبيل المثال قد تجد خلافاً بين الزوج والزوجة، وقد يؤدي الخلاف إلى معارك وطلاق، وبعد ذلك نجد من يتهم الإسلام بأنه أعطى الرجل سيفاً مسلطاً على المرأة. ونقول لهم: ولماذا تتهمون الإسلام؟ هل دخلت على الزواج بمنطق الإسلام؟. إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق الإسلام فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة كرامتها، ولكن هناك من يدخل على الزواج بغير منطق الإسلام، فلما وقع في الأزمة راح ينادي الإسلام. هل اختار الرجل من تشاركه حياته بمقياس الدين؟ وهل وضع نصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث الشريف:
< عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". >
هل فضل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياساً آخر؟. وعندما جاء رجل ليخطب ابنة من أبيها هل وضع الأب مقاييس الإسلام في الاعتبار عند موافقته على هذا الزواج؟ هل فضلتم من ترضون دينه وخلقه؟ أم تركتم تلك القواعد. أنت تركت قواعد الإسلام فلماذا تلوم الإسلام عند سوء النتائج والعواقب؟.
إنك إن أردت أن تحاسب فلابد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس الإسلام، ثم تصرف بما يناسب الإسلام. فإن كنت كذلك فالإسلام يحميك من كل شيء. فالإسلام يساند القوي في الكون ويساند القوي في النفس بحيث تعيش في سلام ولا تتعاند؛ لأن كل ذلك يقابله الحرب. والحرب إنما تنشأ من تعاند القوي، فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك، وتتعاند قوى البشر في حرب مع البشر، وتتعاند قواك مع قوى الكون الأخرى، فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى. إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب، والحرب لا تنشأ إلا إذا اختلفت الأهواء. وأهواء البشر لا يمكن أن تلتقي إلا عندما تكون محروسة بقيم من لا هوى له، ولذلك يقول الله عز وجل:
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن}
(من الآية 71 سورة المؤمنون)
لماذا؟. دعك من الكون الأصم حولك، أو دعك من الكون الذي لا اختيار له في أن يفعل أو ينفعل لك؛ فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه، ولكن انظر إلى البشر من جنسك، فما الذي يجعل هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره؟. ما الذي زاده ذلك الإنسان حتى تكون أنت تابعاً له؟ أو يكون تابعاً لك؟. وفي قانون التبعية لا يمكن إلا أن يكون التابع مؤمنا بأن المتبوع أعلى منه، ولا يمكن لبشر أن توجد عنده هذه الفوقية أبداً. لذلك لابد للبشر جميعاً أن يكونوا تبعاً لقوة آمنوا بأنها فوقهم جميعاً. فحين نؤمن ندخل في السلم، ولا يوجد تعاند بين أي قوى وقوة أخرى؛ لأني لست خاضعاً لك، وأنت لست خاضعاً لي، وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى مني ومنك، ويشترط في القوة التي نتبعها طائعين ألا يكون لها مصلحة فيما تشرع.
إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون، فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد الرأسمالية، ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية، لكن عندما يكون المشرع غير منتفع بما يشرع، فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى. وحين ندخل في الإسلام ندخل جميعاً لا يشد منا أحد، ذلك معنى "ادخلوا في السلم كافة"، هذا معنى وارد، وهناك معنى آخر وارد أيضا وهو ادخلوا في السلم أي الإسلام بجميع تكاليفه بحيث لا تتركوا تكليفاً يشذ منكم. وحين يأتي المعنى الأول فلأننا لو لم ندخل في السلم جميعاً لشقي الذين يسلمون بالذين لا يسلمون؛ لأن الذي يسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للآخرين، ويكون نفع المسلم لسواه، ويشقي المسلم بعد إسلام من لم يسلم، فمن مصلحتنا جميعاً أن نكون جميعاً مسلمين. والذين لا يدركون هذه الحقيقة يفسرون قول الله تعالى:
{لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}
(من الآية 105 سورة المائدة)