(بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين "90")
عندما رفض اليهود الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وطردهم الله من رحمته .. بين لنا أنهم: "بئسما اشتروا به أنفسهم" .. وكلمة اشترى سبق الحديث عنها وقلنا إننا عادة ندفع الثمن ونأخذ السلعة التي نريدها .. ولكن الكافرين قلبوا هذا رأسا على عقب وجعلوا الثمن سلعة .. على أننا لابد أن نتحدث أولا عن الفرق بين شرى واشترى .. شرى بمعنى باع .. واقرأ قوله عز وجل:
{وشروه بثمن بخسٍ دراهم معدودةٍ وكانوا فيه من الزاهدين "20"}
(سورة يوسف)
ومعنى الآية الكريمة أنهم باعوه بثمن قليل .. واشترى يعني ابتاع .. ولكن اشترى قد تأتي بمعنى شرى .. لأنك في بعض الأحيان تكون محتاجا إلي سلعة ومعك مال .. وتذهب وتشتري السلعة بمالك وهذا هو الوضع السليم .. ولكن لنفرض أنك احتجت لسلعة ضرورية كالدواء مثلا .. وليس عندك المالك ولكن عندك سلعة أخرى كأن يكون عندك ساعة أو قلم فاخر .. فتذهب إلي الصيدلية وتعطي الرجل سلعة مقابل سلعة .. أصبح الثمن في هذه الحالة مشترى .. إذن فمرة يكون البيع مشتري ومرة يكون مبيعاً ..
والحق تبارك وتعالى يقول: "بئسما اشتروا به أنفسهم" .. وكأنما يعيرهم بأنهم يدعون الذكاء والفطنة .. ويؤمنون بالمادية وأساسها البيع والشراء .. لو كانوا حقيقة يتقنون هذا لعرفوا أنهم قد أتموا صفقة خاسرة .. الصفقة الرابحة كانت أن يشتروا أنفسهم مقابل التصديق بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم .. ولكنهم باعوا أنفسهم واشتروا الكفر فخسروا الصفقة لأنهم أخذوا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .. والله سبحانه وتعالى يجعل بعض العذاب في الدنيا ليستقيم ميزان الأمور حتى عند من لم يؤمن بالآخرة .. فعندما يرى ذلك من لا يؤمن بالآخرة عذابا دنيويا يقع على ظالم .. يخاف من الظلم ويبتعد عنه حتى لا يصيبه عذاب الدنيا ويعرف أن في الدنيا مقاييس في الثواب والعقاب .. وحتى لا ينتشر في الأرض فساد من لا يؤمن بالله ولا بالآخرة .. وضع الحق تبارك وتعالى قصاصا في الدنيا .. واقرأ قوله جل جلاله:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون "179" }
(سورة البقرة)
والله سبحانه وتعالى في قصاصه يلفت المؤمن وغير المؤمن إلي عقوبة الحياة الدنيا .. فيأتي للمرابي الذي يمتص دماء الناس ويصيبه بكارثة لا يجد بعدها ما ينفقه .. ولذلك نحن نقول يا رب إن القوم غرهم حلمك واستبطأوا آخرتك فخذهم ببعض ذنوبهم أخذ عزيز مقتدر حتى يعتدل الميزان.
والله تبارك وتعالى جعل مصارع الظالمين والباغين والمتجبرين في الدنيا .. جعلها الله عبرة لمن لا يعتبر بمنهج الله. فتجد إنسانا ابتعد عن دينه وأقبلت عليه الدنيا بنعيمها ومجدها وشهرتها ثم تجده في آخر أيامه يعيش على صدقات المحسنين .. وتجد امرأة غرها المال فانطلقت تجمع من كل مكان حلالا أو حراما وأعطتها الدنيا بسخاء .. وفي آخر أيامها تزول عنها الدنيا فلا تجد ثمن الدواء .. وتموت فيجمع لها الناس مصاريف جنازتها .. كل هذه الأحداث وغيرها عبرة للناس .. ولذلك فهي تحدث على رؤوس الأشهاد .. يعفرها عدد كبير من الناس .. إما لأنها تنشر في الصحف وإما أنها تذاع بين أهل الحي فيتناقلونها .. المهم أنها تكون مشهور.
وتجد مثلا أن اليهود الذين كانوا زعماء المدينة تجار الحرب والسلاح .. ينتهي بهم الحال أن يطردوا من ديارهم وتؤخذ أموالهم وتسبى نساؤهم .. أليس هذا خزيا؟ قوله تعالى: "أن يكفروا يما أنزل الله بغيا" .. البغي تجاوز الحد، والله جعل لكل شيء حدا من تجاوزه بغى .. والحدود التي وضعها الله سبحانه هي أحكام .. ومرة تكون أوامر ومرة تكون نواهي. ولذلك يقول الحق بالنسبة للأوامر:
{تلك حدود الله فلا تعتدوها }
(من الآية 229 سورة البقرة)