(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون "79")
هذه الآية الكريمة جاءت في القسم الثاني من اليهود وهو المقابل للأميين .. وهم إما أميون لا يعلمون الكتاب .. وإما يعلمون ولكنهم يغيرون فيه ويكتبونه بأيديهم ويقولون هذا من عند الله. ولذلك توعدهم الله تبارك وتعالى فقال: ويل لهم، وبدأ الآية بالوعيد بالجزاء مباشرة. نلاحظ أن كلمة ويل في اللغة تستعمل معها كلمتي ويح وويس .. وكلها تعني الهلاك والعذاب .. وتستعمل للتحسر على غفلة الإنسان عن العذاب .. واقرأ قوله تعالى:
{يا وليتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها }
(من الآية 49 سورة الكهف)
وقوله جل جلاله:
{يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا}
(من الآية 97 سورة الأنبياء)
هذه الويلات تعني الحسرة وقت رؤية العذاب .. وقيل إن الويل وادٍ في جهنم يهوي الإنسان فيه أربعين خريفا والعياذ بالله .. والحق تبارك وتعالى ينذر الذين يكتبون الكتاب بأيديهم أن عذابهم يوم القيامة سيكون مضاعفا .. لأن كل من ارتكب إثما نتيجة لتزييفهم للكتاب سيكونون شركاء وسيحملون عذابهم معهم يوم القيامة، وسيكون عذابهم مضاعفا أضعافا كثيرة. يقول الحق سبحانه وتعالى: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" .. ألم يكن يكفي أن يقول الحق فويل للذين يكتبون الكتاب ويكون المعنى مفهوما .. يكتبون الكتاب بماذا؟ بأيديهم .. نقول لا .. لأن الفعل قد يتم بالأمر وقد يتم بالفعل .. رئيس الدولة مثلا يتصل بأحد وزرائه ويقول له ألم أكتب إليك كتابا بكذا فلماذا لم تنفذه؟ هو لم يكتب هذا الكتاب بيده ولكنهم كتبوه بأمره، ورؤساء الدولة نادرا ما يكتبون كتبا بأيديهم.
إن الله سبحانه وتعالى يريد هنا أن يبين لنا مدى تعمد هؤلاء للإثم .. فهم لا يكتفون مثلا بأن يقولوا لغيرهم اكتبوا .. ولكن لاهتمامهم بتزييف كلام الله سبحانه وتزويره يقومون بذلك بأيديهم ليتأكدوا بأن الأمر قد تم كما يريدون تماما .. فليس المسألة نزوة عابرة .. ولكنها مع سبق الإصرار والترصد .. وهم يريدون بذلك أن يشتروا ثمنا قليلا، هو المال أو ما يسمى بالسلطة الزمنية .. يحكمون ويكون لهم نفوذ وسلطان. ولقد كان أهل الكتاب في الماضي إذا اختلفوا في شيء .. ذهبوا إلي الكهان والرهبان وغيرهم ليقضوا بينهم .. لماذا؟ لأن الناس حين يختلفون يريدون أن يستتروا وراء ما يحفظ كبرياءهم إن كانوا مخطئين .. يعني لا أنهزم أمامه ولا ينهزم أمامي .. وإنما يقولون ارتضينا حكم فلان .. فإذا كنا سنلجأ إلي تشريع السماء ليحكم بيننا .. لا يكون هناك غالب ومغلوب أو منهزم ومنتصر .. ذلك حين أخضع أنا وأنت لحكم الله يكون كل منا راضيا بنتيجة هذا الحكم.
ولكن رجال الدين اليهودي والمسيحي أخذوا يصدرون فتاوى متناقضة .. كل منهم حسب مصلحته وهواه .. ولذلك تضاربت الأحكام في القضايا المتشابهة .. لأنه لم يعد الحكم بالعدل .. بل أصبح الحكم خاضعا لأهواء ومصالح وقضايا البشر .. وحين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله .. إنما يريدون أن يخلعوا على المكتوب قداسة تجعل الإنسان يأخذه بلا مناقشة .. وبذلك يكونون هم المشرعين باسم الله، ويكتبون ما يريدون ويسجلونه كتابه، وحين أحس أهل الكتاب بتضارب حكم الدين بما أضافه الرهبان والأحبار، بدأوا يطلبون تحرير الحكم من سلطة الكنيسة.
ولكن لماذا يكتب هؤلاء الناس الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله؟! .. الحق سبحانه وتعالى يقول: "ليشتروا به ثمنا قليلا" .. وقد قلنا إن الإنسان لا يشتري الثمن .. ولكن يدفع الثمن ويشتري السلعة .. ولكنك هنا تدفع لتأخذ ثمنا .. تدفع من منهج الله وحكم الله فتغيره وتبدله لتأخذ ثمنا موقوتا .. والله سبحانه وتعالى يعطيك في الآخرة ولكنك تبيعه بالقليل وكل ثمن مهما بلغ تأخذه مقابل منهج الله يعتبر ثمنا قليلا. والحق سبحانه وتعالى: "فويل لهم مما كتبت أيديهم" .. الآية الكريمة بدأت بقوله تعالى: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم" .. ثم جاء قوله تعالى: "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" .. فساعة الكتابة لها ويل وعذاب .. وساعة بيع الصفقة لها ويل وعذاب .. والذي يكسبونه هو ويل وعذاب.
لقد انتشرت هذه المسألة في كتابة صكوك الغفران التي كانت تباع في الكنائس لمن يدفع اكثر. والحق سبحانه وتعالى يقول: "وويل لهم ما مما يكسبون" .. وكلمة كسب تدل على عمل من أعمال جوارحك يجلب لك خيرا أو نفعا وهناك كسب وهناك اكتسب .. كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار .. ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: "وويل لهم مما يكسبون" .. وفي آية ثانية قال: "بلى من كسب سيئة". فلماذا تم هذا الاستخدام؟ نقول إن هذا ليس كسبا طبيعيا، إنما هو افتعال في الكسب .. أي اكتساب .. ولابد أن نفهم إنه بالنسبة لجوارح الإنسان .. فإن هناك القول والفعل والعمل .. بعض الناس يعتقد إن هناك القول والعمل .. نقول لا .. هناك قول هو عمل اللسان .. وفعل هو عمل الجوارح الأخرى غير اللسان .. وعمل وهو أن يوافق القول الفعل .. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول:
{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون"2"كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون "3"}
(من الآية 164 سورة الأنعام)
إذن هناك قول وفعل وعمل .. والإنسان إذا استخدم جوارحه استخداما سليما بفعل ما هو صالح له .. فإذا انتقل إلي ما هو صالح إلي ما يغضب الله فإن جوارحه لا تفعل ولكنها تفتعل .. تتصادم ملكاتها بعضها مع بعض والإنسان وهو يفتح الخزانة ليأخذ من ماله يكون مطمئنا لا يخاف شيئا والإنسان حين يفتح خزانة غيره يكون مضطربا وتصرفاته كلها افتعال .. والإنسان مع زوجته منسجم في هيئة طبيعية، بعكس ما يكون في وضع مخالف .. إنها حالة افتعال .. وكل من يكسب شيئا حراما افتعله .. ولذلك يقال عنه اكتسب .. إلا إذا تمرس وأصبح الحرام لا يهزه، أو ممن نقول عنهم معتادو الإجرام .. في هذه الحالة يفعل الشيء بلا افتعال لأنه اعتاد عليه .. هؤلاء الذين وصلوا إلي الحد الذي يكتبون فيه بأيديهم ويقولون من عند الله .. أصبح الإثم لا يهزهم، ولذلك توعدهم الله بالعذاب مرتين في آية واحدة.