(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين "124")
يأتي الحق سبحانه وتعالى إلي قصة إبراهيم عليه السلام .. ليصفي الجدل والتشكيك الذي أحدثه اليهود عند تغيير القبلة .. واتجاه المسلمين إلي الكعبة المشرفة بدلا من بيت المقدس .. كذلك الجدل الذي أثاره اليهود بأنهم شعب الله المختار وأنه لا يأتي نبي إلا منهم. يريد الله تبارك وتعالى أن يبين صلة العرب بإبراهيم وصلتهم بالبيت .. فيقول الحق جل جلاله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه" .. ومعناها اذكر إذا ابتلى الله إبراهيم .. وإذ هنا ظرف وهناك فرق بينها وبين إذا الشرطية في قوله تعالى:
{إذا جاء نصر الله والفتح "1" ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا "2"}
(سورة النصر)
إذا هنا ظرف ولكنه يدل على الشرط .. أما إذ فهي ظرف فقط .. وقوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" .. معناها اذكر وقت أن ابتلى إبراهيم بكلمات. ما معنى الابتلاء؟ الناس يظنون أنه شر ولكنه في الحقيقة ليس كذلك .. لأن الابتلاء هو امتحان إن نجحنا فيه فهو خير وإن رسبنا فيه فهو شر .. فالابتلاء ليس شرا ولكنه مقياس لاختبار الخير والشر. الذي ابتلى هو الله سبحانه .. هو الرب .. والرب معناه المربي الذي يأخذ من يربيه بأساليب تؤهله إلي الكمال المطلوب منه .. ومن أساس التربية أن يمتحن المربي من يربيه ليعلم هل نجح في التربية أم لا؟ والابتلاء هنا بكلمات والكلمات جمع كلمة .. والكلمة قد تطلق على الجملة مثل قوله تعالى:
{وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا "4" ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا "5" }
(سورة الكهف)
إذن فالكلمة قد تطلق على الجملة وقد تطلق على المفرد .. كأن تقول مثلا محمد وتسكت .. وفي هذه الحالة لا تكون جملة مفيدة .. والكلمة المرادة في هذه الآية هي التكليف من الله. قوله سبحانه افعل ولا تفعل .. فكأن التكليف من الله مجرد كلمة وأنت تؤدي مطلوبها أو لا تؤديه .. وقد اختلف العلماء حول الكلمات التي تلقاها إبراهيم من ربه .. نقول لهم أن هذه الكلمات لابد أن تناسب مقام إبراهيم أبي الأنبياء .. إنها ابتلاء يجعله أهلا لحمل الرسالة .. أي لابد أن يكون الابتلاء كبيراً .. ولقد قال العلماء أن الابتلاءات كانت عشرة وقالوا أربعين منها عشرة في سورة التوبة وهي قوله تعالى:
{التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله }
(من الآية 112 سورة التوبة)
وهذه رواية عبد الله بن عباس .. وعشرة ثانية في سورة المؤمنون. وفي قوله سبحانه:
{قد أفلح المؤمنون"1" الذين هم في صلاتهم خاشعون"2" والذين هم عن اللغو معرضون "3" والذين هم للزكاة فاعلون "4" والذين هم لفروجهم حافظون"5" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "6" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون "7" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "8" والذين هم على صلواتهم يحافظون "9" أولئك هم الوارثون"10" }
(سورة المؤمنون)
وبعد ذلك قال: "أولئك هم الوارثون". وفي سورة الأحزاب يذكر منهم قوله جل جلاله:
{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما "35" }
(سورة الأحزاب)
وفي سورة المعارج يقول:
{إلا المصلين "22" الذين هم على صلاتهم دائمون "23" والذين في أموالهم حق معلوم "24" للسائل والمحروم "25" والذين يصدقون بيوم الدين "26" والذين هم من عذاب ربهم مشفقون "27" إن عذاب ربهم غير مأمون "28" والذين هم لفروجهم حافظون "29" إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين "30" فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون "31" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون "32" والذين هم بشهاداتهم قائمون "33" والذين هم على صلاتهم يحافظون "34"}
(سورة المعارج)
نخرج من هذا الجدل، بأن نقول إن الله ابتلى إبراهيم بكلمات تكليفية افعل كذا ولا تفعل كذا .. وابتلاه بأن ألقى في النار وهو حي فلم يجزع ولم يتراجع ولم يتجه إلا لله وكانت قمة الابتلاء أن يذبح ابنه. وكون إبراهيم أدى جميع التكليفات بعشق وحب وزاد عليه من جنسها .. وكونه يلقى في النار ولا يبالي يأتيه جبريل فيقول ألك حاجة فيرد إبراهيم أما إليك فلا وأما إلي الله فعلمه بحالي يغنيه عن سؤالي .. وكونه وهو شيخ كبير يبتلى بذبح ابنه الوحيد فيطيع بنفس مطمئنة ورضا بقدر الله .. يقول الحق:
{أم لم ينبأ بما في صحف موسى "36" وإبراهيم الذي وفى "37" }
(سورة النجم)
أي وفي كل ما طلب منه وأداه بعشق للمنهج ولابتلاءات الله .. لقد نجح إبراهيم عليه السلام في كل ما ابتلى به أو اختبر به .. والله كان أعز عليه من أهله ومن نفسه ومن ولده .. ماذا كافأه الله به؟ قال:
{قال إني جاعلك للناس إماماً }
(من الآية 124 سورة البقرة)