(وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "57")
فالله سبحانه وتعالى يريد أن يمتن على بني إسرائيل بنعمه ومعجزاته .. ويرينا أنه برغم كل هذه النعم عاش بنو إسرائيل في عنادهم وتعنتهم، بعد أن طلب بنو إسرائيل أن يروا الله جهرة فقتلتهم الصاعقة .. ثم بعثهم الله تبارك وتعالى لعلهم يشكرون .. ذكر لنا الحق جل جلاله نعما أخرى من نعمه على بني إسرائيل .. وقال اذكروا إذ كنتم في الصحراء وليس فيها ظل تحتمون به من حرارة الشمس القاسية .. وليس فيها مكان تستظلون فيه، لأنه لا ماء ولا نبات في الصحراء .. فظل الله سبحانه وتعالى عليكم بالغمام .. أي جاء الغمام رحمة من الله سبحانه وتعالى .. ثم بعد ذلك جاء المن والسلوى.
والمن نقط حمراء تتجمع على أوراق الشجر بين الفجر وطلوع الشمس .. وهي موجودة حتى الآن في العراق .. وفي الصباح الباكر يأتي الناس بالملاءات البيضاء ويفرشونها تحت الشجر .. ثم يهزون الشجر بعنف فتسقط القطرات الموجودة على ورق الشجر فوق الملاءات .. فيجمعونها وتصبح من أشهى أنواع الحلويات. فيها طعم القشدة وحلاوة عسل النحل .. وهي نوع من الحلوى اللذيذة المغذية سهلة الهضم سريعة الامتصاص في الجسم. والله سبحانه وتعالى جعله بالنسبة لهم وقود حياتهم .. وهم في الصحراء يعطيهم الطاقة. أما السلوى فهي طير من السماء ويقال أنه السمان .. يأتيهم في جماعات كبيرة لا يعرفون مصدرها .. ويبقى على الأرض حتى يمسكوا به ويذبحوه ويأكلوه.
فالله تبارك وتعالى قد رزقهم بهذا الرزق الطيب من غمام يقيهم حرارة الشمس، ومن يعطيهم وقود الحركة. وسلوى كغذاء لهم، وكل هذا يأتيهم من السماء دونما تعب منهم .. ولكنهم لعدم إيمانهم بالغيبات يريدون الأمر المادي وهم يخافون ان ينقطع المن والسلوى عنهم يوما ما فماذا يفعلون؟ لو كانوا مؤمنين حقا لقالوا: إن الذي رزقنا بالمن والسلوى لن يضيعنا .. ولكن الحق جل جلاله ينزل لهم طعامهم يوميا من السماء وهم بدلا من أن يقابلوا هذه النعمة بالشكر قابلوها بالجحود.
وقوله تعالى: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" فالحق سبحانه وتعالى يتحدث للمرة الثالثة عن ظلم قوم موسى .. ففي المرة الأولى قال "وأنتم ظالمون". وفي الآية الثانية قال: "ظلمتم أنفسكم" .. وفي هذه الآية قال: "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون" .. ولقد سبق أن قلت أنه لا أحد يستطيع أن يظلم الله لأن الله سبحانه وتعالى باق بقدرته وقوته وعظمته .. لا يقلل منها لو كفر أهل الأرض جميعا ولا يزيد فيها لو آمن أهل الأرض كلهم. فقدرة الله باقية وكلمته ماضية .. ولكن نحن الذين نظلم أنفسنا .. بأن نوردها مورد التهلكة والعذاب الذي لا نجاة منه دون أن نعطيها شيئا..
إن الدنيا كما قلنا عالم أغيار. والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك. إما أن تتركها بالموت أو تتركك هي وتزول عنك .. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط .. كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلي الآخرة .. ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلي العذاب الأبدي طمعا في نفوذ أو مال زال بعد فترة قصيرة ولم يدم .. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة".