(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين "65")
بعد أن بين الله جل جلاله لنا كيف أنه فتح باب الفضل والرحمة لليهود فتركوه .. أراد أن يبين لنا بعض الذي فعلوه في مخالفة أوامر الله والتحايل عليها .. والله تبارك وتعالى له أوامر في الدين وأوامر تتعلق بشئون الدنيا .. وهو لا يحب أن نأخذ أي أمر له يتعلق بالدين أو الدنيا مأخذ عدم الجد .. أو نفضل أمرا على أمر .. ولذلك تجد في سورة الجمعة مثلا قول الحق تبارك وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون "9" فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}
(سورة الجمعة)
هذان أمران أحدهما في الدين والثاني يتعلق بالدنيا .. وكلاهما من منهج الله .. فالله لا يريدك أن تتاجر وتعمل وقت الصلاة .. ولا أن تترك عملك بلا داع وتبقى في المسجد بعد الصلاة .. إذا نودي للصلاة فإلي المسجد .. وإذا قضيت الصلاة فإلي السعي للرزق .. وهناك يومان في الأسبوع ذكرا في القرآن بالاسم وهما يوم الجمعة والسبت .. بينما أيام الأسبوع سبعة، خمسة أيام منها لم تذكر في القرآن بالاسم .. وهي الأحد الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس .. الجمعة هي عيد المسلمين الذي شرع فيه اجتماعهم في المساجد وأداء صلاة الجماعة .. ونلاحظ أن يوم الجمعة لم يأخذ اشتقاقه من العدد .. فأيام الأسبوع نسبت إلي الأعداد فيما عدا الجمعة والسبت. لذلك تجد الأحد منسوب إلي واحد والاثنين منسوب إلي اثنين .. والثلاثاء منسوب إلي ثلاثة والأربعاء منسوب إلي أربعة والخميس منسوب إلي خمسة..
كان المفروض أن ينسب يوم الجمعة إلي ستة ولكنه لم ينسب .. لماذا؟ لأنه اليوم الذي اجتمع فيه للكون نظام وجوده .. فسماه الله تبارك وتعالى الجمعة وجعله لنا عيدا .. والعيد هو اجتماع كل الكون في هذا اليوم، اجتماع نعمة الله في إيجاد الكون وتمامها في ذلك اليوم .. فالمؤمنون بالله يجتمعون اجتماع حفاوة بتمام خلق الكون لهم .. والسبت .. الباء والتاء تفيد معنى القطع .. وسبت ويسبت سبتا إذا انقطع عمله .. ونلاحظ أن خلق السماوات والأرض تم في ستة أيام مصداقا لقوله تعالى:
{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيامٍ }
(من الآية 4 سورة الحديد)
وكان تمام الخلق يوم الجمعة .. وفي اليوم السابع وهو يوم السبت .. كان كل شيء قد استقر وفرغ من خلق الكون .. ولذلك له سبات أي أن هذا اليوم يسمى سباتا .. لأن فيه سكون الحركة بعد تمام الخلق .. فلما أراد اليهود يوما للراحة أعطاهم الله يوم السبت وأراد الحق تبارك وتعالى أن يبتليهم في هذا اليوم والابتلاء هو امتحانهم فقد كانوا يعيشون على البحر وعملهم كان صيد السمك .. وكان الابتلاء في هذا اليوم حيث حرم الله عليهم فيه العمل وجعل الحيتان التي يصطادونها تأتي إليهم وقد بدت أشرعتها وكانوا يبحثون عنها طوال الأسبوع وربما لا يجدونها .. وفي يوم السبت جاءتهم ظاهرة على سطح الماء تسعى إليهم لتفتنهم .. واقرأ قوله سبحانه وتعالى:
{وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون "163"}
(سورة الأعراف)
وهكذا يمتلئ سطح البحر بالأسماك والحيتان يوم السبت .. فإذا جاء صباح الأحد اختفت بعيدا وهم يريدون أن يجعلوا السبت عيدا لهم لا يفعلون فيه أي شيء .. ولكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يحصلوا على هذه الأسماك والحيتان .. صنعوا شيئا اسمه الحياض العميقة ليحتالوا بها على أمر الله بعدم العمل في هذا اليوم .. وفي الوقت نفسه يحصلون على الأسماك .. هذه الحياض يدخلها السمك بسهولة .. ولأنها عميقة لا يستطيع الخروج منها ويتركونه يبيت الليل وفي الصباح يصطادونه .. وكان هذا تحايلا منهم على مخالفة أمر الله .. والله سبحانه وتعالى لا يحب من يحتال في شيء من أوامره.
ويقول الله تعالى: "ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين" .. وهذه قصة مشهورة عند اليهود ومتواترة .. يعلمها الأجداد للآباء والأباء للأحفاد .. وهي ليست جديدة عليهم وإن كان المخاطبون هم اليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولذلك عندما سمع: "ولقد علمتم" أي لقد عرفتم ومعنى ذلك أن القصة عندكم معروفة .. وكأنها من قصص التراث التي يتناقلونها .. وقوله تعالى: "الذين اعتدوا منكم في السبت" .. المفعول هنا واحد هنا حيلة مذكورة أنهم اعتدوا على أمر الله بالراحة يوم السبت .. هم حقيقة لم يصطادوا يوم السبت .. ولكنهم تحايلوا على الممنوع بنصب الفخاخ للحيتان والأسماك .. وكانوا في ذلك أغبياء .. وقد كان الممنوع أن يأخذوا السمك في حيازتهم بالصيد يوم السبت .. ولكنهم أخذوه في حيازتهم بالحيلة والفخاخ .. وقوله تعالى: "اعتدوا" أي تجاوزوا حدود الله المرسومة لهم .. وعادة حين يحرم الله شيئا يأتي بعد التحريم قوله تعالى:
{تلك حدود الله فلا تقربوها }
(من الآية 187 سورة البقرة)