(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون "55")
بعد أن تاب الله على قوم موسى بعد عبادتهم للعجل .. عادوا مرة أخرى إلي عنادهم وماديتهم. فهم كانوا يريدون إلها ماديا .. إلها يرونه ولكن الإله من عظمته أنه غيب لا تدركه الأبصار .. واقرأ قوله تعالى:
{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "103"}
(سورة الأنعام)
فكون الله سبحانه وتعالى فوق إدراك البشر .. هذا من عظمته جل جلاله .. ولكن اليهود الذين لا يؤمنون إلا بالشيء المادي المحس .. لا تتسع عقولهم ولا قلوبهم إلي أن الله سبحانه وتعالى فوق المادة وفوق الأبصار .. وهذه النظرة المادية نظرة حمقاء .. والله تبارك وتعالى قد لفتنا إلي قضية رؤيته جهرا في الدنيا .. بقوله تعالى:
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون "21" }
(سورة الذاريات)
أي أن الله جل جلاله وضع دليل القمة على وجود الله الذي لا تدركه الأبصار. وضع هذا الدليل في نفس كل واحد منا. وهي الروح الموجودة في الجسد .. والإنسان مخلوق من مادة نفخت فيها الروح فدبت فيها الحياة والحركة والحس .. إذن كل ما في جسدك من حياة .. ليس راجعا إلي المادة التي تراها أمامك .. وإنما يرجع إلي الروح التي لا تستطيع أن تدركها إلا بآثارها .. فإذا خرجت الروح ذهب الحياة وأصبح الجسد رمة.
إذا كانت هذه الروح التي في جسدك .. والتي تعطيك الحياة لا تستطيع أن تدركها مع أنها موجودة داخلك .. فكيف تريد أن تدرك الله سبحانه وتعالى .. كان يجب أولا أن تسأل الله أن يجعلك تدرك الروح التي في جسدك .. ولكن الله سبحانه وتعالى قال إنها من أمر الله .. واقرأ جل جلاله:
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً "85" }
(سورة الإسراء)
إذا كانت هذه الروح هي مخلوقة لله لا تدركها .. فكيف تطمع أن ترى خالقها .. وانظر إلي دقة الأداء القرآني في قوله سبحانه. "حتى نرى الله جهرة" .. فكلمة نرى تطلق ويراد بها العلم. مثلا:
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه }
(من الآية 43 سورة الفرقان)
أي أعلمت .. ولكن جاءت كلمة جهرة لتنفي العلم فقط وتطالب بالرؤية مجهورة واضحة يدركونها بحواسهم. وهذا دليل على أنهم متمسكون بالمادية التي هي قوام حياتهم .. نقول لهؤلاء إن سؤالكم يتسم بالغباء .. فأنتم حين تطلبون أن تروا الله جهرة. والمفروض أن الله تبارك وتعالى له مدلول عندكم .. ولذلك تطلبون رؤيته لتقارنوا المدلول على الموجود .. ذلك لو كانت القضية أصلا أن تعرفوا أن الله موجود أو غير موجود .. والذي شجعهم على أن يقولوا ما قالوا .. طلب موسى عليه السلام من الله سبحانه وتعالى أن يراه. واقرأ قوله تعالى:
{قال رب انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلي الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً }
(من الآية 143 سورة الأعراف)
ولابد أن نعرف أن قضية رؤية الله في الدنيا محسوسة .. وأنه لا سبيل إلي ذلك والإنسان في جسده البشري .. لأن هذا الجسد له قوانين في ادراكاته .. ولكن يوم القيامة نكون خلقا بقوانين تختلف .. ففي الدنيا لابد أن تخرج مخلفات الطعام من أجسادنا. وفي الآخرة لا مخلفات. وفي الدنيا يحكمنا الزمن .. وفي الآخرة لا زمن. إذ يظل الإنسان شبابا دائما .. إذن فهناك تغيير .. المقاييس هنا غير المقاييس يوم القيامة في الدنيا بإعدادك وجسدك لا يمكن أن ترى الله. وفي الآخرة. أنت الآن تعيش في أثار قدرة الله .. وفي الآخرة تعيش عيشة الناظر إلي الله تبارك وتعالى .. وفي ذلك يقول الحق جل جلاله:
{وجوه يومئذٍ ناضرة "22" إلي ربها ناظرة "23" }
(سورة القيامة)
والإنسان في الدنيا قد اخترع آلات مكنته من أن يرى ما لا يراه بعينه المجردة يرى الأشياء الدقيقة بواسطة الميكروسكوب. والأشياء البعيدة بواسطة التلسكوب .. فإذا كان عمل الإنسان في الدنيا جعله يبصر ما لم يكن يبصره .. فما بالك بقدرة الله في الآخرة .. وإذا كان الإنسان عندما يضعف نظره. يطلب منه الطبيب استعمال نظارة .. فإذا ذهب إلي طبيب أمهر .. أجرى له عملية جراحية في عينه يستغني بها عن النظارة ويرى بدونها .. فما بالكم بإعداد الحق للخلق وبقدرة الله التي لا حدود لها في أن يعيد خلق العين بحيث تستطيع أن تتمتع بوجهه الكريم. ولقد حسم الله تبارك وتعالى المسألة مع موسى عليه السلام بأن أراه العجز البشري .. لأن الجبل بقوته وجبروته لم يستطع احتمال نور الله فجعله دكا .. وكأن الله يريد أن يفهم موسى .. أن الله تبارك وتعالى حجب عنه رؤيته رحمة منه. لأنه إذا كان هذا قد حدث للجبل فماذا كان يمكن أن يحدث بالنسبة لموسى. إذا كان موسى قد صعق برؤية المتجلي عليه .. فكيف لو رأى المتجلي؟ ..
والإنسان حين يعجز عن إدراك شيء في الدنيا لأنه مخلوق بهذه الإمكانات يكون العجز عن الإدراك إدراكا لأن العجز عن الإدراك هو في عظمة الله سبحانه وتعالى .. وقوم موسى حينما طلبوا منه أن يروا الله جهرة أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .. عندما اجترأوا هذه الاجتراء على الله أخذتهم الصاعقة .. والصاعقة إما نار تأتي وإما عذاب ينزل .. المهم أنه بلاء يعمهم .. والصاعقة قد أصابت موسى.