الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، تبصرة لأولي الألباب ، وأودعه من فنون
العلوم والحكم العجب العجاب ، وجعله أجل الكتب قدرا ، وأغزرها علما ، وأعذبها
نظما ، وأبلغها في الخطاب ، قرآنا غير ذي عوج لا شبهة، فيه ولا ارتياب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب الأرباب ، الذي عنت لقيوميته الوجوه وخضعت له الرقاب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث من أكرم الشعوب وأشرف الشعاب ، إلى خير أمة بأفضل كتاب ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب ، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم المآب.
وبعد ،،،، فإن العلوم وإن كثر عددها ، وانتشر في الخافقين مددها ، فغايتها بحر قعره لا يدرك ، ونهايتها طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك ، ولكن العلوم تشرف بشرف المعلوم ؛ لذا فخير العلوم على الإطلاق ، وبه يحدث في الأمة الوفاق ، بعد التشتت والشقاق ، هو القرآن الكريم : كلام رب العالمين ، المنزل على سيد المرسلين ، نزل به الروح الأمين ، المتعبد بتلاوته إلى يوم الدين ، المتحدى بأقصر سورة منه العالمين ،عدا الملائكة المقربين ؛ فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فعلم ذووا الألباب فضله ، فساروا على نوره وهديه ،وأقبلوا عليه زرافات ووحدانا ، طامعين في ثناء ربنا ومولانا ، حيث وعد التالين له بالأجر العظيم ، فقال تعالى: القرآن أجـــــب إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ القرآن أجـــــب… (فاطر:29،30) فعلم أصحاب العقل والرشاد أنه شافع لهم يوم التناد ، وأنه خير جليس لا يمله العلماء ولا العباد ، وفي ذلك قال صاحب الشاطبية:
وإن كتاب الله أوثق شافــــع = وأغنى غناء واهبا متفضـلا
وخير جليـس لا يمل حديـثــه = وترداده يزداد فيه تجمــلا
وحيث الفتى يرتـاع في ظلمـاته = من القبر يلقاه سنا متهــللا
فحملوا القرآن كما ينبغي أن يحمل ، وعاشوه قلبا وقالبا ، فها هي عائشة القرآن أجـــــب تسأل عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، فأوجزت في الجواب والبيان ، فقالت : كان خلقه القرآن.
وخذ طرفا ممن صدقوا في حمله ، وأرادوا أن يكونوا من أهله ، فصدق منهم الجنان ، وخشعت الجلود والأركان ، فتأمل إلى انشغالهم به عن غيره : فقد أخرج ابن أبي داود عن مكحول قال : كان أقوياء أصحاب رسول الله القرآن أجـــــب يقرءون القرآن في سبع ، وبعضهم في شهر ، وبعضهم في شهرين ، وبعضهم في أكثر من ذلك
ولقد كان السلف القرآن أجـــــب لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ، فروى ابن أبي داود ما ذكرته آنفا وزاد فقال: (..... وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة ، وعن بعضهم في كل ثمان ليال ختمة ، وعن الأكثرين في كل سبع ليال ، وعن بعضهم في كل ست ، وعن بعضهم في كل خمس ، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث ، وعن بعضهم في كل ليلتين ، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين ، ومنم من كان يختم ثلاثا ........ فمن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان القرآن أجـــــب وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون ....... ).
وليس المقام لتفنيد حكم ختم القرآن فوق أو دون الثلاث ، بل خذ العبرة من ذلك ، إذ أن القرآن كان شغلهم الشاغل ، ولك أن تتأمل إلى من يعيش مع القرآن بهذه الصورة المشرقة ، كيف أصبح حاله ؟ وكيف يكون مآله؟
ولا تظنن أن همهم عند تلاوته نهاية السورة ، بل التدبر هدفهم ، والفهم مقصدهم ، حيث علمهم النبي القرآن أجـــــب ذلك. فلا بأس إن كرروا منه الآية لإصلاح قلوبهم، وطهارة أفئدتهم، روى النسائي وغيره عن أبي ذر، ( أن النبي القرآن أجـــــب قام بآية يرددها حتى أصبح : القرآن أجـــــب إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُالقرآن أجـــــب (المائدة:118) )
بل وعند تلاوته كان البكاء صفتهم ، والخشوع سمتهم ، عملا بقول ربهم:القرآن أجـــــب وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاًالقرآن أجـــــب … (الاسراء:109) واقتداء بسنة نبيهم القرآن أجـــــب ، كما ثبت في الصحيحين حديث قراءة ابن مسعود على النبي القرآن أجـــــب ، وفيه (فإذا عيناه تذرفان).
بل والتزموا معه الأدب ، ولم لا وهو كلام الرب ، فذكر البيهقي : (كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه.
وفوق كل ذلك فقد أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، فكان أحدهم مع آي الله وقافا ، فيأتمر بما أمر ، وينتهي عما نهى، فصدق فيهم أنهم أهل القرآن وخاصته .
فخلف من بعدهم خلف ، لم يعرفوا من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه ، وزعم منهم من زعم أنهم للقرآن حملة ، وأنهم أهل الله وخاصته،مع أنهم حرموا حلاله ، وأحلوا حرامه، وتركوا محكمه ، وتلاعبوا بمتشابهه ، وقصدوا به وجه الخلق دون الخالق –إلا من رحم الله- وفي مثل هؤلاء الأدعياء قال علي ابن أبي طالب القرآن أجـــــب : ( يا حملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم ، وتخالف سريرتهم علانيتهم ، يجلسون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه . أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى) .
فكلنا يزعم اليوم أننا حاملون للقرآن ، مع أن كثيرا منا لم يتعرف على آدابه سواء كان عالما أو متعلما – إلا من رحم الله – فيا حامل القرآن زعما : ألم تسمع قول النووي –القرآن أجـــــب - : ( ومن آداب حامل القرآن أن يكون على أكمل الأحوال ، وأكرم الشمائل ، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالا للقرآن ، وأن يكون مصونا عن دنيء الاكتساب شريف النفس ، مرتفعا على الجبابرة والجفاة من أهل الدنيا ، متواضعا للصالحين وأهل الخير )والمساكين ، وأن يكون متخشعا ذا سكينة ووقار ، فقد جاء عن عمر بن الخطاب القرآن أجـــــب أنه قال: (يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق فاستبقوا الخيرات ، لا تكونوا عيالا على الناس ) أهـ
فالقرآن له جلال ؛ لذا ينبغي له الإجلال ، ولقد رأيت معي هدي من سبق ، ممن أخلص وصدق ، ففازوا بقصب السبق ، وهاهو واحد من أهل القرآن يوضح لنا سمات حامله ، وما ينبغي أن يكون عليه قارؤه ، فيقول ابن مسعود القرآن أجـــــب : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف
فيا حامل القرآن: أترى في نفسك ما أسلفنا ذكره من أقوال سلفنا أم أنت ممن لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب. إن لحامل القرآن آدابا سواء للمعلم أو المتعلم ، ولا يسع المجال لذكر ذلك ، بل سيذكر في حينه إن شاء الله، إلا أنني أطرح عليك عدة تساؤلات اجعلها لك مفتاحا ، أو علامات على أول الطريق ، ولكن كن صادقا في الجواب على نفسك ، حتى تشرف أن تكون من أهل القرآن.
أولا: ما نيتك عند تلاوة القرآن؟ أو عند تعلمه أو تعليمه.
ثانيا: ما شعورك إذا قصد الناس غير مجلسك ؟ والتفوا حول غيرك.
ثالثا: في كم يوم تختم القرآن؟
رابعا: هل لك ورد بالليل؟ وإن كان ، فكم تختم في كل ليلة؟
خامسا: هل تتأدب مع القرآن عند تلاوته؟ .
سادسا: هل تجد قلبك عند تلاوة القرآن؟
سابعا: تعرف على أخلاقك من حيث حسنها وقبحها ، ورفعتها وتدنيها.
فيا حامل القرآن : هذه بعض أسئلة هامة وليس كلها ، فأجب بصدق وبادر بالسعي عسى أن تصل إلى أشرف مقصود وتنال رضا الرب المعبود.
جعلني الله وإياك من أهل القرآن وخاصته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
منقول ----