(أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين "19")
وقول الحق سبحانه وتعالى: "أو كصيب من السماء" .. الصيب هو المطر .. والله تبارك وتعالى ينزل الماء فتقوم به الحياة .. مصداقا لقوله جل جلاله:
{وجعلنا من الماء كل شيء حيٍ }
(من الآية 12 سورة الأنبياء)
ومن البديهي أننا نعرف أن إنزال المطر .. هو من قدرة الله سبحانه وتعالى وحده .. ذلك أن عملية المطر فيها خلق بحساب .. وفيها عمليات تتم كل يوم بحساب أيضا .. وفيها عوامل لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى .. فمسألة المطر أعدت الأرض لها حين الخلق .. فكانت ثلاثة أرباع الأرض من الماء والربع من اليابسة .. لماذا؟ من حكم الله في هذا الخلق أن تكون عملية البخر سهلة وممكنة .. ذلك أنه كلما اتسع سطح الماء يكون البخر أسهل .. وإذا ضاق السطح تكون عملية البخر أصعب .. فإذا جئنا بكون مملوء بالماء ووضعناه في حجرة مغلقة يوما .. ثم عدنا إليه نجد أن حجم الماء نقص بمقدار سنتيمترات أو أقل .. فإذا أخذنا الماء في هذا الكوب وقذفناه في الحجرة .. فأنه يختفي في فترة قصيرة .. لماذا؟ .. لأن سطح الماء أصبح واسعا فتمت عملية البخر بسرعة..
والله سبحانه وتعالى حين خلق الأرض .. وضع في الخلق حكمة المطر في أن تكون مساحة الماء واسعة لتتم عملية البخر بسهولة .. وجعل أشعة الشمس التي تقوم بعملية البخر من سطح الماء .. وتم ذلك بحساب دقيق .. حتى لا تغرق الأمطار الأرض أو يحدث فيها جفاف .. ثم سخر الريح لتدفع السحاب إلي حيث يريد الله أن ينزل المطر .. وقمم الجبال الباردة ليصطدم بها السحاب فينزل المطر .. كل هذا بحساب دقيق في الخلق وفي كل مراحل المطر..
ومادام الماء هو الذي يه الحياة على الأرض .. فقد ضرب الله لنا به المثل كما ضرب لنا المثل بالنار وضوئها .. فكلها أمثلة مادية لتقرب إلي عقولنا ما هو غيب عنا .. فالماء يعطينا الحياة..
لكن هؤلاء المنافقين. لم يلتفتوا إلي هذا الخير. الذي ينزل عليهم من السماء من غير تعب أو جهد منهم. بل التفتوا إلي أشياء ثانوية، كان من المفروض أن يرحبوا بها لأنها مقدمات خير لهم. فالمطر قبل أن ينزل من السماء لابد أن يكون هناك شيء من الظلمة في السحاب الذي يأتي بالمطر. فيحجب أشعة الشمس أن كنا نهارا. ويخفي نور القمر والنجوم أن كنا ليلا. هذه الظلمة مقدمات الخير والماء..
إنهم لم يلتفتوا إلي الخير الذي ملأ الله به سبحانه وتعالى الأرض. بل التفتوا إلي الظلمة فنفروا من الخير .. كذلك صوت الرعد ونور البرق. الرعد يستقبله الإنسان بالأذان وهي آلة السمع. والبرق تستقبله العين .. وصوت الرعد قوي، أقوى من طاقة الأذن. ولذلك عندما يسمعه الإنسان يفزع، ويحاول أن يمنع استقبال الأذن له، بأن يضع أنامله في أذنيه.
وهؤلاء المنافقون لم يضعوا الأنامل. ولكن كما قال الله سبحانه وتعالى: "يجعلون أصابعهم في آذانهم" ولم يقل أناملهم. وذلك مبالغة في تصوير تأثير الرعد عليهم فكأنهم من خوفهم وذعرهم يحاول كل واحد منهم أن يدخل كل إصبعه في أذنه. ليحميه من هذا الصوت المخيف. فكأنهم يبالغون في خوفهم من الرعد.
ونلاحظ هنا أن الحديث ليس عن فرد واحد، ولكن عن كثيرين .. لأنه سبحانه وتعالى يقول "أصابعهم" نقول أن الأمر لجماعة يعني أمراً لكل فرد فيها، فإذا قال المدرس للتلاميذ أخرجوا أقلامكم، فمعنى ذلك أن كل تلميذ يخرج قلمه .. وإذا قال رئيس الجماعة اركبوا سياراتكم، فمعنى ذلك أن كل واحد يركب سيارته .. لذلك فإن معنى "يجعلون أصابعهم في آذانهم" أن كل واحد منهم يضع إصبعيه في أذنيه..
لماذا يفعلون ذلك؟! أنهم يفعلون خوفا من الموت. لأن الرعد والبرق يصاحبهما الصواعق أحيانا، ولذلك فإنهم من مبالغتهم في الخوف يحس كل واحد منهم أن صاعقة ستقتله .. فكأنهم يستقبلون نعمة الله سبحانه وتعالى بغير حقيقتها .. هم لا يرون النعمة الحقيقية في أن هذا المطر يأتي لهم بعوامل استمرار الحياة. ولكنهم يأخذون الظاهر في البرق والرعد. وكذلك المنافقون .. لا يستطيع الواحد منهم أن يصبر على شهوات نفسه ونزواتها .. أنه يريد ذلك العاجل ولا ينظر إلي الخير الحقيقي الذي وعد الله به عباده المؤمنين في الآخرة .. وهو ينظر إلي التكاليف كأنها شدة ومسألة تحمل النفس بعض المشاق. ويغفل عن حقيقة جزاء التكاليف في الآخرة. وكيف أنها ستوفر لهم النعيم الدائم .. تماما كما ينظر الإنسان إلي المطر على أنه ظلمة ورعد وبرق، وينسى أنه بدون هذا المطر من المستحيل أن تستمر حياته..
هم يأخذون هذه الظواهر على أنها كل شيء. بينما هي في الحقيقة تأتي لوقت قصير وتختفي، فهي قصيرة كالحياة الدنيا، وقتية. ولكن نظرتهم إليها وقتية ومادية لأنهم لا يؤمنون إلا بالدنيا وغفلوا عن الآخرة .. غفلوا عن ذلك الماء التي يبقى فترة طويلة، وتنبهوا إلي تلك الظواهر الوقتية التي تأتي مع المطر فخافوا منها وكان خوفهم منها يجعلهم لا يحسون بما في المطر من خير. والمنافقون يريدون أن يأخذوا خير الإسلام دون أن يقوموا بواجبات هذا الدين!!
ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلي قضية هامة. وهي أن خوفهم من زوال متع الدنيا ونفوذها لن يفعل لهم شيئا. لأن الله محيط بالكافرين .. والإحاطة معناها السيطرة التامة على الشيء بحيث لا يكون أمامه وسيلة للإفلات، وقدرة الله سبحانه وتعالى محيطة بالكافرين وغير الكافرين .. إذن عدم التفاتهم للنفع الحقيقي، وهو منهج الله، لا يعطيهم قدرة الإفلات من قدرة الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.