نظرية الدم الفاسد
المقوله (الدم الفاسد ) كانت سائدة في الطب القديم ولا زالت تستعمل على نطاق واسع في العصر الحديث، يرددها الناس والمرضى ويجاملهم الأطباء في ذلك، فهل هذه المقولة صحيحة؟ وهل هناك دم صالح ودم فاسد داخل الجسم البشري؟ وما هي الدلائل على فساد الدم عند من يقول بذلك؟ في هذه المقالة نحاول الإجابة على هذه التساؤلات.
كان الأطباء القدامىومعهم الناس يعتقدون أنّ لكل عضو من أعضاء الجسم دمه الموجود فيه، وأنّ المرض الذي يصيب ذلك العضو يسبب فساد في الدم فيه، وأنّ الوسيلة للتخلص من الدم الفاسد في أي عضو من أعضاء الجسم وبالتالي معالجة المرض الذي أصابه هو بالحجامة الرطبة )الحجامة بعد تشطيب الجلد( التي تُخرج الدم الفاسد وتُبقي الدم الصالح في ذلك العضو، كما كانوا يقولون بتصليح الدم من خلال وسائل أخرى كالغذاء والحمية والرياضة الجسمية والهواء النقي والمقيئات والمسهلات، وقد استمرت هذه المعتقدات آلاف السنين حتى أرسى جالينوس )القرن الثاني الميلادي( نظريته في القلب والأوعية )الدم(، حيث افترض جالينوس أنّ الدم يتدفق إلى الأنسجة من الكبد والقلب سواء بسواء، وأنّ الهواء يمر من الرئتين إلى القلب، وأنّ الشرايين والأوردة بها مجريان للدم، يدفعهما ويستقبلهما القلب في حركة مد وجزر، وأنّ الدم يجري من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر من القلب عبر مسام في الحجاب الحاجز بين التجاويف، وظلت وظائف القلب والدم لأكثر من ألف عام تُفسَّر كما فسَّرها جالينوس في القرن الثاني الميلادي، وبالتالي استمر الاعتقاد السابق بنظرية الدم الفاسد واستخراجه بالحجامة، ومع أنّ الطبيب الإسلامي ابن النفيس قد اكتشف الدورة الدموية الصغرى في القرن العاشر الميلادي فإنه لم يستمر في اكتشافه حتى يصل إلى الدورة الدموية الكبرى والعامة والتي تُفسر الأمر برمته، وذلك لأنّ الاكتشاف كان نظريا ولم يأت من يُثبته من الناحية العملية )التشريحية والفسيولوجية( كما سنرى عند هارفي عام )1615م(.
فقد عارض ليوناردو دافنتشي )1560م( فكرة مرور الهواء من الرئتين إلى القلب، وأنكر فيساليوس )1543م( وجود مسام في الحجاب الحاجز، وكشفت رسومه البارعة للشرايين والأوردة عن أنّ نهاياتها أو أطرافها دقيقة ومتلاصقة حتى لا تكاد توحي بالمرور والدورة، وأوضح فابريزيو أنّ الصمامات في الأوردة تجعل من المستحيل تدفق الدم الوريدي من القلب، وهكذا بدأت نظرية جالينوس تتلاشى.
وقد كان هارفيعالما بالرياضيات إضافة إلى كونه طبيبا عظيما، وعلمه بالرياضيات )وخاصة الاستقراء( هو الذي مكنه من اكتشاف الدورة الدموية، يقول هارفي: ))عندما استعرضت مجموعة الشواهد التي لدي، سواء ما استقيتها من تشريحات الأحياء وتأملاتي فيها، أو من تجاويف القلب والأوعية التي تدخل إليها أو تخرج منها، والتي كثيرا ما أمعنت التفكير فيها بشكل جدي، ما عساها تكون كمية الدم التي تنقل، وجدت من المستحيل أن تكون مستمدة من عصارات الغذاء الذي يدخل الجسم دون أن تجف الأوردة تدريجيا من جهة، أو تنفجر الشرايين لفرط امتلائها بالدم من جهة أخرى، إلا إذا وجد الدم له بطريقة ما مخرجا من الشرايين إلى الأوردة ومن ثم يعود إلى الجانب الأيمن من القلب، أقول: إني عندما استعرضت كل هذه البيانات والشواهد بدأت أفكر في أنه يمكن أن يكون هناك حركة كما لو كانت دائرة، والآن يمكن أن أستبيح لنفسي أن أدلي بفكرتي عن الدورة الدموية((.
فتقدير هارفي: إذا كانت كمية الدم المندفع من القلب في كل انقباض أو تقلص نصف أوقية سائل، ففي ساعة لابد أن يصبَّ القلب في الشرايين ما يزيد على )500( أوقية سائل، وهي كمية تزيد على ما يحتويه الجسم كله، فمن أين يأتي كل هذا الدم؟! وبدا من المستحيل أنّ مثل هذا القدر الكبير يمكن أن ينتج من ساعة إلى ساعة من هضم الغذاء، فاستنتج هارفي أنّ الدم الذي يخرج من القلب يُعاد إليه، وأنه ليس ثمة طريق آخر لهذا سوى الأوردة، وبفضل التجارب والملاحظات البسيطة تبيَّن في الحال وبسهولة أنّ الدم الوريدي يتدفق من الأنسجة إلى القلب.
وتلخيص فكرة الدورة الدموية هو على الشكل التالي:إنّ الدم الذي يخرج من البطين الأيسر يذهب إلى سائر أنحاء الجسم، ثم يعود إلى الأذين الأيمن ومنه إلى البطين الأيمن، ثم يخرج الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين، ومن الرئتين يعود الدم إلى الأذين الأيسر ومنه إلى البطين الأيسر )ولذلك يقال: قلب أيسر ويشمل الأذين الأيسر والبطين الأيسر، وقلب أيمن ويشمل الأذين الأيمن والبطين الأيمن(، والحجاب بين الأذينين والبطينين مسدود، وهكذا يُتم الدم دورانه من خلال دورتين: دورة كبرى حيث يذهب الدم إلى سائر أنحاء الجسم ليحمل غاز الكربون السام، ودورة صغرى حيث يذهب الدم إلى الرئتين فيحمل غاز الأكسجين ويتخلص من غاز الكربون، وقد أتمَّ مالبيكي اكتشاف هارفي بأن اكتشف الشعيرات الدموية التي تصل بين نهايات الأوردة ونهايات الشرايين عام )1660م(.
والدورة الدموية أصبحت حقيقة ولها شواهد مادية محسوسة، فحينما نسحب ليتر دم من أوردة اليد لا يستطيع أي إنسان أن يزعم أنّ يد الإنسان تحتوي أكثر من ليتر من الدم، وحينما ننقل الدم لإنسان وقد تكون الكمية بالألتار لا يستطيع أحد الزعم بأنّ يد الإنسان تحمل ثلاثة ألتار من الدم مثلا، فهناك دورة دموية والدخول على أي وعاء دموي هو دخول على الشجرة الدموية أي دخول على السائل الدموي ككل، فأين هو الدم الفاسد والدم غير الفاسد داخل الكتلة الدموية السائلة؟! إنّ نظرية الدم الفاسد لم يعد لها أساس من الصحة منذ اكتشاف الدورة الدموية، أي: منذ أربعة قرون على الأقل ومع ذلك لا يزال الناس يعتقدون بهذه النظرية لشبهات، ويسايرهم الأطباء لأسباب، فما هي هذه الشبهات؟ وما هي هذه الأسباب؟.
أما الشبهة الأولىالتي يوردها الناس على القول بالدم الفاسد فهي شبهة اللون، حيث إنّ الدم المستخرج من الجسم سواء بالحجامة )الرطبة( أو بالفصادة )سحب الدم من أوردة اليد( لونه أزرق غامق قريب إلى السواد في حين لون الدم الصالح هو الأحمر الفاتح، والجواب على شبهة اللون هو أنّ الدم المستخرج بالحجامة والفصادة هو دم وريدي، أي: الدم الذي يحمل الفضلات ومنها الكربون من سائر أنحاء الجسم إلى القلب، فالحجامة والفصادة تكون من خلال الأوردة وهي سطحية عادة، بينما الشرايين التي تحمل الدم الأحمر الزاهي لا يمكن الدخول عليها بالفصادة أو بالحجامة.
وأما الشبهة الثانيةالتي يوردها من يقول بنظرية الدم الفاسد فهي شبهة التخثر، حيث إنّ الدم الخارج من الجسم بالحجامة أو الفصادة أو الجروح يتخثر بسرعة وخاصة في الجو البارد، فيقول لنا الكثير من المرضى حينما نسحب لهم الدم كوسيلة علاجية: أنظر يا دكتور، هذا الدم الأسود المتجلط لو بقي في جسمي لقتلني، وهذا الكلام يقوله الناس لبعضهم، والجواب على ذلك أنّ أيّ دم يخرج من الجسم سوف يتجلط بسرعة خاصة إذا كان الجو باردا، وحتى لا يتخثر الدم الذي يؤخذ من الناس في بنوك الدم ويُنقل لغيرهم أو الدم الذي يُستخرج من الجسم للتحاليل المخبرية، يُضاف له مادة مانعة للتخثر.
ومن المناسب التذكير بأنني لا أنفي العلاج بالحجامة أو الفصادة في بعض الحالات، وإنما أنفي أن يكون هناك دم فاسد ودم صالح فالدم هو هو قد يكون صالحا وذلك عند الإنسان السليم وقد يكون فاسدا وذلك عند الإنسان المريض ولكن هذا الفساد هو فساد نسبي وليس مطلقا.
وأما الأطباء فيسايرون المرضى في قولهم بالدم الفاسد إما لأنه ليس لديهم وقت لشرح المعلومة الطبية أو لأنّ المريض عاميّ لا يمتلك القدرة على استيعاب نظرية الدورة الدموية أو كنوع من الدجل للمحافظة على المنفعة المالية من المريض، وعند هذا السبب الأخير أذكّر بأنّ هارفي لم ينشر نظريته واكتشافه للدورة الدموية )1615م( إلا بعد ثلاثة عشر عاما من اكتشافه )1628م(، ويذكر المؤرِّخون أنه اتهم في عقله وتأثر عمله الطبي بعد أن نشر اكتشافه الحقيقة العلمية