من كتاب: ( المعجزة المحمدية ) :
السيد إبراهيم أحمد
الفصل الأول
مع الرسول صلى الله عليه وسلم فى
بيت السيدة خديجة
كان رسول الله يستطيع أن يعيش كما يعيش أحسن الناس في تلك القرية " مكة " فيكون من رجالها البارزين وله مقعده في دار الندوة يرجعون إليه عند المشورة برأي، ولا يقطعون أمراً دون الرجوع إليه ، الم يكـــــــن زوجاً لثرية من كبريات ثراة مكة تَسير القوافل صيفاً وشتاء لترجع بالخير الوفير ، وهو جالس في الظـــــل الو ريف يجمع ثمار ماله ، والقيان يضربن له المعازف ويغنين شعراً من قصائد فحـــول شعراء المعلقــــات ، أو يروي جوفه الظامئ من الحر اللافح بالخمر القراح – كما يفعلون – فيعب ويعب حتى الثمالة وحوله حاشيته وخدمه وجواريه ، ماله حتى قبل أن يكلفه الله بالرسالة يقطع الأميال قرابة الثـــلاث ساعات في مشقةٍ وعنــــت وحده ليعكف في ظلمة الليل وحيداً في غارٍ يتحنث من مكـــان عال يطل علي ربي مكة كلهــــا ، تاركا ً ليلها يلهو فيها السادة والعبيد ، ومرتادوا ديار ذوات الرايات الحمر ماله يظـــل وديعاً ، هادئاً ، أميناً ، صادقاً ، وهي صفـــات لازمته آناء أيام الشظف .
ألم يكن له أن ينقلب علي صفاته بعد ما أصبح السيد المطاع ، المهيب الأركان ؟ لما لم يتكبر ويتجبر ؟ أليس هذا ما جبل الناس عليه إذا ما مستهم النعمة بعد الفاقة ، والرخاء بعد الضيم ؟ !
--- ويري الأستاذ / فتحي رضوان في كتابه : محمد الرسول الأعظم: لو أن رجلاً تزوج خديجة الجميلة الغنية لأقبل علي الدنيا ولكان همه أن ينمي ثروتها ليربو حظه من الحياة المادية ولغشي مجالس مكة حيث تدور الكـــؤوس البـــاعثة للنشوة في الرؤوس وحيث تسمع أحلي الأحاديث وأجمل الدعابات ، وأطلي الأقاصيص أ. هـــ
- وزواجه صلى الله عليه وسلم فيه من اتهامات المرجفين قديماً وإلصاق صفات الوصولية والنفعية والانتهازية بشاب فقيـــر صغير ليتزوج من تكبره سناً فيرد علي هذا الزعم د. نظمي لوقا ويتبين من أسمه أنه رجل مسيحي العقيدة في كتابه: محمد في حياته الخاصة : { لم يكن من أمره بعد زواجها – أي من السيدة خديجة – ما يـــدل علي إسرافه في مالها كما يفعل النفعيون الذين يتزوجون العجائز الثريات فلم يعمد إلي البذخ في مظهــــــره بلي كان متواضعاً عفيفاً ولم يعمد إلي القصف مع أبناء المياسير إظهاراً لثرائه الطارئ . بل إزداد تباعده عــــن كل ألوان القصف ، وزاد زهده في الرخاء والترف وصار يقضي الكثير من وقته صائما معتزلاً للناس وحده في الجبل }.
- هذا الشاب الثري لا يفعل هذا كله بل تقول د. بنت الشاطئ عنه:{ بعد أن تنام الدنيا في قريش قد أوي إلى غار هناك مستغرقاً في تأمله ، يلتمس في العتمة الداجية شعاعاً من نـــور الحــق ، وينشد في خلوته أنس الهدي وراحة النفس }.
--- كان قادراً علي أن يأخذ نصيبه من الراحة ينام متى أحب ، ويأكل ما شاء ، ويلبس من الثياب الغالية ما يهوي ، فهل كان ذلك شأنه ؟
يتسائل الأستاذ / فتحي رضوان ويجيب بالنفي :- لأنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بما صرفه عن التجارة وعن شئــــون الدنيا قاطبة وبما جعله يترك داره ويلوذ بغار في جبل علي بعد فرسخين من مكة ، عال ٍلا يصـــل إليه الإنسان إلا أن يناله العـنـاءالشديد ، وهذا مايؤكده د/ طه حسين فى كتابه: مرآة الإسلام إذ يقول : وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدَّعة . ولكنه فى ذلك الطوَّر من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة فى شباب قريش : فهو شديد النفُّرة من اللهو وشديد النفرة من اللغو أيضاً ؛ وهو أبعد الناس عن التكلف وأقربهم إلى الإسماح واليسر ؛ وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التى كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين ، وهو أصدق الناس إذا تكلم وأوفاهم إذا عامل وأبعدهم من كل مايزرى بالرجل الكريم وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم وأرعاهم للحق وأشدهم إيثاراً للبر . على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئاً فشيئاً ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وحين ويمضى وقد تزود لعزلته حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالى فإذا انقضى زاده أو كاد ينقضى عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره فأوى إليه ومكث فيه ماشاء الله أن يمكث .أ.هـ
إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن يستشرف للنبوة، ولا يحلم بها، وإنما كان يلهمه الله الخلوة للعبادة تطهيرا، وإعدادا روحيا لتحمل أعباء الرسالة، ولو كان عليه الصلاة والسلام يستشرف للنبوة، لما فزع من نزول الوحي عليه. (السيرة النبوية دروس وعبرالدكتور مصطفى السباعي ص 26).
.... وكان كلما ارتقى الجبل ، انفسح المجال ، ورق الهواء، وانكشف الحجاب، وامتدت الرؤية، وسقط الحس، وبقى حدس النبوات....يدخل صلى الله عليه وسلم الغار.. الصمت نائم.. والقلب يقظ.. ولاشىء يعترض الرؤية الداخلية العميقة..ومع العزلة والسهر تولد الأفكار وتنشر أجنحتها وتحلق أولاً فى فضاء الغار ثم تنطلق....
لا يتبقى لنا من تبين سر الإعجاز هنا أن كل من أدلي برأيه في زواج رسول الله من العلماء الذين ذكرتهم آنفاً أخذته الدهشة من :-
- عدم تحول سلوكه إلي سلوكيات الطبقة التي انتقل إليها من الأغنياء والمياسير ولم ينحو نحوهم .
- ميله إلي الزهد أكثر ، وكان الأولي به أن يطمع ويحقق كل ما يتمني المرء وهو فقير من لبس أفخر الثياب ، والركون إلي الراحة وتغيير نمط الحياة السابقة علي الثراء .
- غار حراء توقف عندها جميع العلماء بالدهشة والحيرة والاستغراب وهل تغري ظلمته رجلاً ثرياً بترك المدينة المتوهجة بنورها وناسها ويختار مكاناً بإرادته ليس فيه ما يجذب ويغري إنسان في أي عصــــر بالذهاب إليه بعيد عن البلدة حوالي ميلين – صاعداً طريق يحتاج لثلاث ساعات – في قمة جبـــل موحش / مظلـــــم والأدهي ليس هناك أي وجـــــــــــه للإضطرار ولا يمثل له شعيرة دينية حتى يمتثل لها صاغــــــــراً .
- تكرارهذه الخلوة والدوام عليها أي أنها لم تكن فكرة طارئة ، قام بها فأشبع في نفسه رغبة ، ثم تولي عنها .
- لقد زرت هذا المكان بسيارة مكيفة ، ولم أصعد الجبل ، وكان في وضح النهار والعمران والأمن والحماية تحيط بالمكــــــان كله .
- هل لو عرض أي منا نفسه من تحول لغني بعد فقر ، وامتلك ما امتلك ، أن يرضي بالغار وظلمته ووحدته وبعده وعلوه ومشقة الوصول إليه ، ماذا لو كررت الفعل في عصرنا الحاضر لاحتجت لسيـــــارةٍ مكيفة وغار مكيف ومصعد سريع ، وتبقي هناك قرابة الساعة مع أصدقاء تأنس بهم مخافة الوحدة والملل ، ولن تكررها مرة أخرى ،........ وهنا أشهد بأنه صلى الله عليه وسلم مٌعجزٌ لنا حتى في عصرنا هذا وكل العصور ، وهو لم يصبح بعد نبيـــــــــاً رســــــــولا.