(زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حسابٍ "212")
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع الإنسان في الكون، هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك الكون، ومعنى ذلك أن كل الأجناس تخدمه. وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات، والجماد والنبات يخدمان الحيوان، والجماد والنبات والحيوان تخدم الإنسان، فالإنسان سيد هذه الأجناس.
وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه، فكما كانت الأجناس التي دونه في خدمته، فلابد أن يكون هذا الجنس الأعلى يناسب سيادته، ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من الجنس الذي ينتسب إليه، لذلك كان المفروض أن يقول الإنسان: أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛ فأنا في أشد الاحتياج إليه. فإذا جاء الرسل وقالوا: إن الذي أعلى منك أيها الإنسان هو الله وليس كمثله شيء وتعالى عن كل الأجناس. كان يجب على الإنسان أن يقول: مرحبا؛ لأن معرفة الله تحل له اللغز. والرسل إنما جاءوا ليحلوا للإنسان لغزاً يبحث عنه، وكان على الإنسان أن يفرح بمجيء الرسل، وخصوصاً أن الله عز وجل لا يريد خدمة منه، إن الإنسان هو الذي يحتاج لعبادة الله ليسخر له الكائنات، ويعبده ليعزه. إذن فالمؤمن بين أمرين: بين خادم له مسخر وهو من دونه من الجهاد والنبات والحيوان، ومعطٍ متفضلٍ عليه مختارٍ وهو أعلى منه. إنه هو الله.
فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الأدنى وترك الأعلى، فيقول له الحق: خذ الأعلى. فإذا كنت سعيداً بعطاء المخلوقات الأدنى منك، وتحب أن تستزيد منها فكيف لا تستزيد ممن هو أعلى منك؟. إنه الله. والحق عندما يقول: "زين للذين كفروا الحياة الدنيا" فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين مقاييس هابطة نازلة؛ لأن الذي زين لهم هو الأمر الأدنى. ومن خيبة التقدير أن يأخذ الإنسان الأمر الأدنى ويفضله على الأعلى. وكلمة "زين" عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم فاعله مثل قوله تعالى:
{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة}
(من الآية 14 سورة آل عمران)
هناك "زين للناس" وفي آية البقرة التي نحن بصددها "زين للذين كفروا" لماذا قال الحق هناك: "زين للناس" ولماذا قال هنا: "زين للذين كفروا"؟ لقد قال الحق ذلك لأن الذين كفروا ليس عندهم إلا الحياة الدنيا، فالأعلى لا يؤمنون به، ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول الله عز وجل: "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير والمقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" فهو سبحانه يقول للناس: خذوا الحياة على قدرها. وزينت يعني حسنت. فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها الله عز وجل. فكيف تنسى الذي حسنها لك، وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك.
كان يجب أن تأخذها وسيلة للإيمان بمن رزقك إياها، وكلما ترى شيئا جميلا في الوجود تقول: "سبحانه الله"، وتزداد إيمانا بالله، أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس النازل. أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة الدنيا، ونقول: هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ لا، لقد أعلى الغرائز وأعطى المنهج لتعلية الغرائز، فلا تأخذ هذه وتترك تلك. ولذلك يقول الحق:
{والباقيات الصالحات خير}
(من الآية 46 سورة الكهف)
والحق عندما يقول: "زين للذين كفروا الحياة الدنيا" فهو يفضح من يعتقدون أنه لا حياة بعد هذه الحياة، ونقول لهم: هذا مقياس نازل، وميزان غير دقيق، ودليل على الحمق؛ لأنكم ذهبتم إلى الأدنى وتركتم الأعلى. ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من اختار الأعلى هذه المفارقات. أنتم في الأدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى الأعلى، إن الحق يقول: "ويسخرون من الذين آمنوا". لماذا يسخرون منهم. لأن الذين آمنوا ملتزمون، ومادام الإنسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من غير حل، لكن هؤلاء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة.
لذلك تجد إنساناً يعيش في مستوى دخله الحلال، ولا يملك إلا حلة واحدة "بدلة"، وإنساناً آخر يسرق غيره، فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي الاثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلال، لماذا؟ لأنه يعتبر نفسه في مقياس أعلى منه، يرى نفسه حسن الهندام و"الشياكة" فيحسم الحق هذه المسألة ويقول: "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة". لماذا يوم القيامة، أليسوا فوقهم الآن؟
إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهي انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية، ولا يؤذي أحداً، ولا يرتشي، ولا ينم ولا يغتاب، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون في سعادة لا تقدر بمال الدنيا. ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس في المقارنة، وإنما أدخل المسألة التي لا يقدر عليها أحد. "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة". ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون "29" وإذا مروا بهم يتغامزون "30" وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين "31" وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون "32" وما أرسلوا عليهم حافظين "33"}
(سورة المطففين)
ثم يقول الحق بعد ذلك:
{فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون "34" على الأرائك ينظرون "35" هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون "36" }
(سورة المطففين)