(وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "49")
بعد أن حذر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من يوم لا تنفع فيه الشفاعة. أراد أن يذكرهم بفضله عليهم وبنعمه. قوله تعالى: "إذ" هي ظرف لشيء وسبق أن قلنا أن الظرف نوعان. لأن كل حدث من الأحداث يحتاج إلي زمان يقع فيه وإلي مكان يقع فيه. وعندما أقول لك اجلس مكانك. هذا الظرف يراد به المكان. وعندما يخاطب الله عز وجل عباده: أذكر إذ فعلت كذا. أي اذكر وقت أن فعلت كذا ظرف زمان. وقول الحق تبارك وتعالى: "وإذ نجيناكم" أي اذكروا الوقت الذي نجاكم فيه من فرعون.
والآية التي نحن بصددها وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم. قوله تعالى:
{وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "49"}
(سورة البقرة)
{وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم}
(من الآية 141 سورة الأعراف)
{وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم}
(من الآية 6 سورة إبراهيم)
الاختلاف بين الأولى والثانية هو قوله تعالى في الآية الأولى: "يذبحون أبناءكم". وفي الثانية: (يقتلون أبناءكم). "ونجينا" في الآية الأولى: "وأنجينا" في الآية الثانية. ما الفرق بين نجينا وأنجينا؟ هذا هو الخلاف الذي يستحق أن تتوقف عنده .. في سورة البقرة: "وإذ نجيناكم من آل فرعون" .. الكلام هنا من الله. أما في سورة إبراهيم فنجد "اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم". الكلام هنا كلام موسى عليه السلام. ما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام موسى؟.
أن كلام موسى يحكي عن كلام الله. أن الله سبحانه وتعالى حين يمتن على عباده يمتن عليهم بقمم النعمة، ولا يمتن بالنعم الصغيرة. والله تبارك وتعالى حين امتن على بني إسرائيل قال: "نجيناكم من آل فرعون يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم". ولم يتكلم عن العذاب الذي كان يلاقيه قوم موسى من آل فرعون. أنهم كانوا يأخذونهم أجراء في الأرض ليحرثوا وفي الجبال لينحتوا الحجر وفي المنازل ليخدموا. ومن ليس له عمل يفرضون عليه الجزية. ولذلك كان اليهود يمكرون ويسيرون بملابس قديمة حتى يتهاون فرعون في أخذ الجزية منهم. وهذا معنى قول الحق سبحانه وتعالى:
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة }
(من الآية 61 سورة البقرة)
أي أنهم يتمسكون ويظهرون الذلة حتى لا يدفعوا الجزية. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يمتن عليهم بأنه أنجاهم من كل هذا العذاب. بل يمتن عليهم بقمة النعمة. وهي نجاة الأبناء من الذبح واستحياء النساء. لأنهم في هذه الحالة ستستذل نساؤهم ورجالهم. فالمرأة لا تجد رجلا يحميها وتنحرف. كلمة نجى وكلمة أنجى بينهما فرق كبير. كلمة نجى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب. الأولى للتخليص من العذاب والثانية يبعد عنهم عذاب فرعون نهائيا. ففضل الله عليهم كان على مرحلتين. مرحلة أنه خلصهم من عذاب واقع عليهم. والمرحلة الثانية أنه أبعدهم عن آل فرعون فمنع عنهم العذاب.
قوله تعالى: "يسومونكم سوء العذاب" ما هو السوء؟ أنه المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والسخرة والعمل بالأشغال الشاقة. ما معنى يسوم؟ يقال سام فلان خصمه أي أذله وأعنته وأرهقه. وسام مأخوذة من سام الماشية تركها ترعى. لذلك سميت بالسام أي المتروكة. وعندما يقال إن فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب. معناها أن كل حياتهم ذل وعذاب .. فتجد أن الله سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن حكام مصر من الفراعنة يتكلم عن فراعنة قدماء كانوا في عهد عاد وعهد ثمود. واقرأ قوله تعالى:
{والفجر "1" وليال عشرٍ "2" والشفع والوتر "3" والليل إذا يسر "4" هل في ذلك قسم لذي حجرٍ "5" ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ "6" إرم ذات العماد "7" التي لم يخلق مثلها في البلاد "8" وثمود الذين جابوا الصخر بالواد "9" وفرعون ذي الأوتاد "10" الذين طغوا في البلاد "11" فأكثروا فيها الفساد "12" }
(سورة الفجر)
أي أن الله تبارك وتعالى جاء بحضارة الفراعنة وقدماء المصريين بعد عاد وثمود وهذا دليل على أن حضارة عاد وثمود قديمة. والله سبحانه وتعالى وصف عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. أي أنها حضارة أرقى من حضارة قدماء المصريين. قد يتساءل بعض الناس كيف يصف الله سبحانه وتعالى عادا بأنها التي لم يخلق مثلها في البلاد. مع أنه يوجد الآن حضارات متقدمة كثيرة.
نقول إن الله قد كشف لنا حضارة الفراعنة وآثارهم. ولكنه أخفى عنا حضارة عاد. ولقد وجدنا في حضارة الفراعنة أشياء لم نصل إليها حتى الآن. مثل براعتهم في تحنيط الموتى والمحافظة على الجثث. وبناء الأهرامات وغير ذلك. وبما أن حضارة عاد كانت أرقى من حضارة الفراعنة. فإنها تكون قد وصلت إلي أسرار مازالت خافية على العالم حتى الآن. ولكنا لا نعرف شيئا عنها، لأن الله لم يكشف لنا آثارها. ولقد تحدث الحق تبارك وتعالى عن الفراعنة باسم فرعون. وتكلم عنهم في أيام موسى باسم آل فرعون. ولكن الزمن الذي كان بين عهدي يوسف وموسى لم يسم ملك مصر فرعون، إنما سماه العزيز الذي هو رئيس الوزراء ورئيسه الملك. وقال الحق تبارك وتعالى:
{وقال الملك ائتوني به }
(من الآية 50 سورة يوسف)
إذن فالحاكم أيام يوسف كان يسمى ملكا ولم يسم فرعون. بينما حكام مصر قبل يوسف وبعده كانوا يلقبون بفرعون. ذلك لأنه قبل عهد يوسف عليه السلام حكم مصر الهكسوس أهل بني إسرائيل. فقد أغاروا على مصر وانتصروا على الفراعنة. وحكموا مصر سنوات حتى تجمع الفراعنة وطردوهم منها. والغريب أن هذه القصة لم تعرف إلا بعد اكتشاف حجر رشيد، وفك رموز اللغة الهيروغليفية. وكان ملوك الهكسوس من الرعاة الذين استعمروا مصر فترة. ولذلك نرى في قصة يوسف عليه السلام قول الله سبحانه وتعالى: "وقال الملك ائتوني به".