الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن واله، أما بعد:
قال الله تعالى: "وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" [الحج : 34 ، 35]
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} بخير الدنيا والآخرة.
والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده.
ثم ذكر صفات المخبتين فقال:
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: خوفا وتعظيما، فتركوا لذلك المحرمات، لخوفهم ووجلهم من الله وحده.
{ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } من البأساء والضراء، وأنواع الأذى، فلا يجري منهم التسخط لشيء من ذلك، بل صبروا ابتغاء وجه ربهم، محتسبين ثوابه، مرتقبين أجره.
{ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة، بأن أدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة.
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وهذا يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات بجميع وجوهها، وأتي بـ { من } المفيدة للتبعيض، ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله.
من تفسير السعدي رحمه الله.
وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [هود : 23]
قول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم، أي: صدقوا واعترفوا، لما أمر الله بالإيمان به، من أصول الدين وقواعده.
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } المشتملة على أعمال القلوب والجوارح، وأقوال اللسان.
{ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي: خضعوا له، واستكانوا لعظمته، وذلوا لسلطانه، وأنابوا إليه بمحبته، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه.
{ أُولَئِكَ } الذين جمعوا تلك الصفات
{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لأنهم لم يتركوا من الخير مطلبا، إلا أدركوه، ولا خيرا، إلا سبقوا إليه.
من تفسير السعدي (1 / 380)
وذكر ابن القيم رحمه الله من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإخبات.
فقال:
الخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض وبه فسر ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون
وقال مجاهد : المخبت المطمئن إلى الله عز و جل قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض
وقال الأخفش : الخاشعون
وقال إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون
وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم
وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا
وهذه الأقوال تدور على معنيين :
التواضع والسكون إلى الله عز وجل ولذلك عدي بإلى تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله تعالى .
قال صاحب المنازل : هو من أول مقامات الطمأنينة يعني بمقامات الطمأنينة كالسكينة واليقين والثقة بالله ونحوها.
فالإخبات : مقدمتها ومبدؤها قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد.
لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع غفلة وإعراض والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة فى أول مناهله فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر فإذا ورد ذلك الماء : زال عنه التردد وخاطر الرجوع كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره وجد في السير.
قال وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة ويستهوي الطلب السلوة.
المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده ورجوع عن مراده وسلوة عنه
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة فتستغرق عصمته شهوته
والعصمة هي الحماية والحفظ و الشهوة الميل إلى مطالب النفس و الاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به
يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها وتستوفي جميع أجزائها فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة : فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله أول منازلها وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير وذلك علامة السكينة.
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2 / 3-6)
=======================
التحليل الموضوعي
قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ، أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي : خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة [ ص: 259 ] المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ 8 \ 2 ] وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .
واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالىيكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلمربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] وقال تعالى :والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
========================
م * ن * ق * و * ل