(إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "6")
وبعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم .. وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير .. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون .. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة .. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان .. ولولا وجود هذا الشر .. أكان هناك ضرورة للإيمان .. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر..
والكافرون قسمان .. قسم كفر بالله أولا ثم استمع إلي كلام الله .. واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن .. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك .. وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا.. إذن الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر .. ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا..
هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر .. ومعنى كفر (أي) ستر .. وكفر الله أي ستر وجود الله جل جلاله .. والذي يستر لابد أن يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود .. والأصل في الكون هو الإيمان بالله .. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى .. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم أو استعلائهم على غيرهم من البشر..
ولفظ الكفر ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر .. كيف؟..
لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه .. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة .. وعلمه الأسماء كلها..
سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة آدم .. والكفر ساعتها لم يكن موجودا .. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلي الأرض واستقر فيها .. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في (افعل ولا تفعل) وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا..
ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيد حركة الناس في الكون .. فبدأ كل من يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر .. والعاقل حين يسمع كلمة كفر .. يجب عليه أن يتنبه إلي أن معناها ستر لموجود واجب الوجود .. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود .. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول:
{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "28" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلي السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم "29"}
(سورة البقرة)
وهكذا يأتي هذا السؤال .. ولا يستطيع الكافر له جوابا!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده .. ولا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره .. فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان .. ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود من خلقكم؟..
والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يدعيها .. فلا يمكن أن يدعي أحد أنه خلق نفسه .. قضية أنك موجود توجب الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي اوجدك .. أنه عين الاستدلال على الله .. وإذا نظر الإنسان حوله فوجد كل ما في الكون مسخر لخدمته والأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة على هذا الكون .. ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الأسباب .. يأخذ الأسباب وهو فاعلها فيجدها قد أعطته واستجابت له .. ولم يلتفت إلي خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان .. وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلي ذلك في قوله جل جلاله:
{كلا إن الإنسان ليطغى "6" أن رآه استغنى "7" }
(سورة العلق)
ذلك أن الإنسان يحرث الأرض فتعطيه الثمر .. فيعتقد أنه هو الذي اخضع الأرض ووضع لها قوانينها لتعطيه ما يريد .. يضغط على زر الكهرباء فينير المكان فيعتقد أنه هو الذي اوجد الكهرباء! يركب الطائرة .. وتسير به في الجو فيعتقد أنه هو الذي جلها تطير .. وينسى الخصائص التي وضعها الله سبحانه وتعالى في الغلاف الجوي ليستطيع أن يحمل هذه الطائرة .. يفتح التليفزيون ويرى أمامه أحداث العالم فيعتقد أن ذلك قد حدث بقدرته هو .. وينسى أن الله تبارك وتعالى وضع في الغلاف الجوي خصائص جعلته ينقل الصوت والصورة أنه أخضعه بذاته .. بينما كل هذا مسخر من الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان .. وهو الذي خلق ووضع القوانين .. نقول له أنك لو فهمت معنى ذاتية الأشياء ما حدثتك نفسك بذلك .. الشيء الذاتي هو ما كان بذاتك لا يتغير ولا يتخلف أبدا .. إنما الأمر الذي ليس بذاتك هو الذي يتغير..وإذا نظرت إلي ذاتيتك تلك التي أغرتك وأطغتك .. ستفهم أن كلمة ذاتية هي ألا تكون محتاجا لغيرك بل كل شيء من نفسك .. وأنت في حياتك كلها ليس لك ذاتية .. لأن كل شيء حولك متغير بدون إرادتك .. وأنت طفل محتاج لأبيك وأمك في بدء حياتك .. فإذا كبرت وأصبح لك قوة واستجابت الأحداث لك فإنك لا تستطيع أن تجعل فترة الشباب والفتوة هذه تبقى .. فالزمن يملك ولكن لفترة محدودة .. فإذا وصلت إلي مرحلة الشيخوخة ستحتاج إلي من يأخذ بيدك ويعينك .. ربما على أدق حاجاتك وهي الطعام والشراب..
إذن فأنت تبدأ بالطفولة محتاجا إلي غيرك .. وتنتهي بالشيخوخة محتاجا لغيرك .. وحتى عندما تكون في شبابك قد يصيبك مرض يقعدك عن الحركة .. فإذا كانت لك ذات حقيقية فأدفع هذا المرض عنك وقل لن أمرض .. أنك لا تستطيع..
والله سبحانه وتعالى اوجد هذه المتغيرات حتى ينتهي الغرور من نفس الإنسان .. ويعرف أنه قوي قادر بما أخضع لله له من قوانين الكون .. لنعلم أننا جميعا محتاجون إلي القادر، وهو الله سبحانه وتعالى، وأن الله غني بذاته عن كل خلقه .. يغير ولا يتغير .. يميت وهو دائم الوجود .. يجعل من بعد قوة ضعفا وهو القوي دائما .. ما عند الناس ينفد وما عنده تبارك وتعالى لا ينفد أبداً .. هو الله في السماوات والأرض.
إذن فليست لك ذاتية حتى تدعي أنك أخضعت الكون بقدراتك .. لأنه ليس لك قدرة أن تبقى على حال واحد وتجعله لا يتبدل ولا يتغير .. فكيف تكفر بالله تبارك وتعالى وتستر وجوده .. كل ما في الكون وما في نفسك شاهد ودليل على وجود الحق سبحانه وتعالى..
قلنا أن الكافرين صنفان .. صنف كفر بالله وعندما جاء الهدى حكم عقله وعرف الحق فآمن .. والصنف الآخر مستفيد من الكفر .. ولذلك فهو متشبث به مهما جاءه من الإيمان والأدلة الإيمانية فإنه يعاند ويكفر .. لأنه يريد أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم على الظلم والطغيان .. ولا يقبل أن يجرد منهما ولو بالحق .. هذا القسم هو الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"
لأنهم لم يكفروا لأن بلاغا عن الله سبحانه وتعالى لم يصلهم .. ولم يكفروا لأنهم في حاجة إلي أن يلفتهم رسول أو نبي إلي منهج الله .. هؤلاء اتخذوا الكفر صناعة ومنهج حياة .. فهم مستفيدون من الكفر لأنه جعلهم سادة ولأنهم متميزون عن غيرهم بالباطل .. ولأنهم لو جاء الإيمان الذي يساوي بين الناس جميعا ويرفض الظلم، لأصبحوا أشخاصا عاديين غير مميزين في أي شيء..
هذا الكافر الذي اتخذ الكفر لجاه الدنيا وزخرفها .. سواء أنذرته أو لم تنذره فإنه لن يؤمن .. أنه يريد الدنيا التي يعيش فيها .. بل أن هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل من آمن .. لأنهم يعرفون أن الإيمان سيسلبهم مميزات كثيرة .. ولذلك فإن عدم إيمانهم ليس عن أن منهج الإيمان لم يبلغهم .. أو أن أحدا لم يلفتهم إلي آيات الله في الأرض .. ولكن لأن حياتهم قائمة ومبنية على الكفر.