قال الحق سبحانه وتعالى :
{ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ
وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) }
[ سورة محمد ]
وتفسير الآيات
من تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم "،
أي : بعلاماتهم التي هي كالرسم في وجوههم .
" ولتعرفنهم في لحن القول "
، أي : لا بد أن يظهر ما في قلوبهم ،
ويتبين بفلتات ألسنتهم .
فإن الألسن مغارف القلوب ،
يظهر فيها ما في القلوب من الخير والشر
" والله يعلم أعمالكم " فيجازيكم عليها .
ثم ذكر أعظم امتحان يمتحن به عباده ، وهو الجهاد في سبيل الله ،
فقال :
" ولنبلونكم "
، أي : نختبر إيمانكم وصبركم
" حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم "
، فمن امتثل أمر الله وجاهد في سبيل الله بنصر دينه وإعلاء كلمته فهو المؤمن حقا ،
ومن تكاسل عن ذلك ، كان ذلك نقصا في إيمانه .
" إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى
لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم "
هذا وعيد شديد لمن جمع أنواع الشر كلها ،
من الكفر بالله ، وصد الخلق عن سبيل الله الذي نصبه موصلا إليه .
" وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى "
، أي : عاندوه ، وخالفوه عن عمد وعناد ، لا عن جهل وغي وضلال ،
فإنهم
" لن يضروا الله شيئا "
فلا ينقص به ملكه .
" وسيحبط أعمالهم "
، أي : مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل ،
بأن لا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران ،
وأعمالهم التي يرجون بها الثواب ، لا تقبل لعدم وجود شرطها .
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم "
يأمر تعالى المؤمنين بأمر به تتم وتحصل سعادتهم الدينية والدنيوية ،
وهو طاعته وطاعة رسوله في أصول الدين وفروعه ،
والطاعة هي : امتثال الأوامر ، واجتناب النهي على الوجه المأمور به
بالإخلاص وتمام المتابعة .
وقوله :
" ولا تبطلوا أعمالكم "
يشمل النهي عن إبطالها بعد عملها ، بما يفسدها ،
من منٍّ بها وإعجاب ، وفخر وسمعة ،
ومن عمل بالمعاصي التي تضمحل معها الأعمال ، ويحبط أجرها ،
ويشمل النهي عن إفسادها حال وقوعها بقطعها ، أو الإتيان بمفسد من مفسداتها .
فمبطلات الصلاة والصيام والحج ونحوها ، كلها داخلة في هذا ، ومنهي عنها ،
ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض ،
وكراهة قطع النفل ، من غير موجب لذلك .
وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال ، فهو أمر بإصلاحها ،
وإكمالها وإتمامها ، والإتيان بها ، على الوجه الذي تصلح به علما وعملا .
" إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار
فلن يغفر الله لهم
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم "
هذه الآية والتي في البقرة وهي قوله تعالى :
" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر
فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة "
مقيدتان ، لكل نص مطلق ، فيه إحباط العمل بالكفر ،
فإنه مقيد بالموت عليه .
فقال هنا :
" إن الذين كفروا "
بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر
" وصدوا "
الخلق
" عن سبيل الله "
بتزهيدهم إياهم بالحق ، ودعوتهم إلى الباطل ، وتزيينه .
" ثم ماتوا وهم كفار "
لم يتوبوا منه
" فلن يغفر الله لهم "
لا بشفاعة ولا بغيرها ،
لأنه قد تحتم عليهم العقاب ، وفاتهم الثواب ،
ووجب عليهم الخلود في النار ،
وسدت عليهم رحمة الرحيم الغفار .
ومفهوم الآية الكريمة أنهم إن تابوا من ذلك قبل موتهم ،
فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ويدخلهم الجنة ،
ولو كانوا مفنين أعمارهم في الكفر به والصد عن سبيله ،
والإقدام على معاصيه .
فسبحان من فتح لعباده أبواب الرحمة ،
ولم يغلقها عن أحد ،
ما دام حيا متمكنا من التوبة .
وسبحان الحليم ،
الذي لا يعاجل العاصين بالعقوبة ،
بل يعافيهم ، ويرزقهم ،
كأنهم ما عصوه مع قدرته عليهم .
ثم قال تعالى :
" فلا تهنوا "
أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم ، ويستولي عليكم الخوف ،
بل اصبروا واثبتوا ، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد ،
طلبا لمرضاة ربكم ، ونصحا للإسلام ، وإغضابا للشيطان .
( و ) لا
" وتدعوا إلى السلم "
والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ، طلبا للراحة ،
( و ) الحال أنكم
" وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم "
، أي : ينقصكم
" أعمالكم "
. فهذه الأمور الثلاثة ، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين ،
أي : قد توفرت لهم أسباب النصر ، ووعدوا من الله بالوعد الصادق ،
فإن الإنسان لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا ،
أو عددا وقوة داخلية وخارجية .
الثاني : أن الله معهم ، فإنهم مؤمنون ،
والله مع المؤمنين ، بالعون والنصر والتأييد ،
وذلك موجب لقوة قلوبهم ، وإقدامهم على عدوهم .
الثالث : أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا ،
بل سيوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، خصوصا عبادة الجهاد ،
فإن النفقة تضاعف فيه ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة .
" ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة
في سبيل الله
ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار
ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح
إن الله لا يضيع أجر المحسنين
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة
ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم
ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون "
. فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده ،
أوجب له ذلك النشاط ، وبذل الجهد ، فيما يترتب عليه الأجر والثواب ،
فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة ؟
فإن ذلك يوجب النشاط التام ،
فهذا من ترغيب الله لعباده ،
وتنشيطهم وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم .