{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا }
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قال تعالى : { إن الذين قالوا قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ماتدّعون }.
إن الإيمان قول وعمل { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } فأخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم . روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حين يموت فقد استقام عليها "
فعن سعيد بن عمران قال : قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ،
وفي رواية من حديث الأسود بن هلال قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا }
قالوا { ربنا الله ثم استقاموا } من ذنب.
فقال لقد حملتموه على غير المحمل { قالوا ربنا الله ثم استقاموا }...فلم يلتفتوا إلى إله غيره .
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص ؟ ( أقوم للمسلم وأسلم) قال قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } على شهادة أن لا إله إلا الله وقال الزهري : تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر، ثم قال استقاموا –والله- لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : { قالوا ربنا الله ثم استقاموا } على أداء فرائضه .
وكان الحسن البصريّ يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ، وقال غيره { ثم استقاموا } أخلصوا له الدين والعمل .
وعن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك
قال صلى الله عليه وسلم : ( قل آمنت بالله ثم استقم )
قلت فما أتقي ؟
فأومأ إلى لسانه . ورواه النسائي.
وفي رواية عن عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به
قال صلى الله عليه وسلم : ( قل ربي الله ثم استقم )
قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ثم قال: ( هذا ) رواه الترمذي وابن ماجه . وقال الترمذي حسن صحيح .
وقوله تعالى { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت قائلين " أن لا تخافوا " مما تقدمون عليه من أمر الآخرة { ولا تحزنوا } على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال فإنا نخلفكم فيه "
{ وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير.
جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال " إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ،اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان " .
وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم. وقرأ ثابت سورة حم السجدة حتى بلغ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن " { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } قال فيؤمّن الله تعالى خوفه ويقر عينه فما يخشاه الناس يوم القيامة هو للمؤمن قرةُ عين لما هداه الله تبارك وتعالى لأنه كان يعمل له في الدنيا ، وقال زيد بن أسلم يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث ،وهذا القول من أجمع الأقوال.
سوق في الجنّة
{ نزلاً من غفور رحيم } إنها ضيافة وعطاء وإنعامٌ من غفور لذنوبنا رحيمٍ بنا رءوف ، فقد غفر وستر ورحم ولطف وقد ذكر ابن أبي حاتم أن في الجنة سوقاً يوضحهُ قوله تعالى :
{ ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم }. لقي سعيد بن المسيب أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة
فقال سعيد أوَفيها سوق ؟
فقال نعم. أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ،ويوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ،ويجلس أدناهم - وما فيهم دنيء- على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا .
قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ( نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ )
قلنا لا
قال صلى الله عليه وسلم : ( فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضَره اللهُ محاضرةً حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا - يذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول أيْ رب أفلم تغفر لي ؟
فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه - قال -
فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط - قال -
ثم يقول ربنا عز وجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا ما اشتهيتم قال فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب. قال فيُحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشترى. وفي ذلك السوق . يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه - وما فيهم دنيء- فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا ،فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا، لقد جئتَ وإن بك من الجمال والطيب أفضلَ مما فارقتنا عليه. فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى. وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به ) . وقد رواه الترمذي في صفة الجنة ، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
عن أنس رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه )
قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت.
قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس ذلك كراهية الموت ،ولكن المؤمن إذا حُضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه، قال وإن الفاجر أو الكافر إذا حُضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه ) وهذا حديث صحيح.
سمات الداعية إلى الله
{ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } فدعا عبادَ الله إلى طاعة الله ،
{ وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } فهو في نفسه مهتد بما يقوله ، ونفعُه لنفسه ولغيره متلازمان ،وهو مثال لما يدعو إليه قولاً وفعلاً ، وامتنع أن يكون من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه
وهذا السؤال لا يتطلّب الإجابة إنما يؤكد أن أفضل المسلمين مَن كان عمله يواكب قوله { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين } قال بعض المفسرين : إنها نزلت بالمؤذنين في قولهم " حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح"، واُريد بالعمل الصالح ركعتا السنّة بين الأذان والإقامة .
وأرى الامر أكبر من هذا وأعمّ ،فالدعوة إلى الله بابها واسع يشمل العبادات والمعاملات والاخلاق وآيات التي تلي هذه الآية تؤكد ما ذكرته. فالمسلم يدعو إلى الله بالقول والفعل ،ويكون قدوة يأتسيه الناس ويعجبون به ويسألون عن سر تجمّله فيعلن لهم أنه مسلمٌ والإسلام يأمره بذلك .
{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة }
قال بعضهم :
1- الحسنة كلمة الإيمان ، والسيئة كلمة الكفر ،فلا يستوي التوحيد و الشرك .
2- وقيل : الحسنة الطاعة , والسيئة الشرك .
3- وقيل : الحسنة المداراة , والسيئة الغلظة .
4- وقيل : الحسنة العفو , والسيئة الانتصار .
5- وقيل : الحسنة العلم , والسيئة الفحش .
6- وقيل : الحسنة حب آل الرسول , والسيئة بغضهم .
وما أروع قال ابن عباس : (ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك) . وعنه أيضا : هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي , وإن كنت كاذبا فغفر الله لك .
وروى في الأثر : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه .
{ ادفع بالتي هي أحسن }
قال بعضهم: يلقى بالسلام من يعاديه وذكرالقاضي أبو بكر بن العربي أنه قُصد بالأحسن – على وزن ( أفعل) : المصافحة . وفي الأثر : ( تصافحوا يذهبِ الغلُّ ) . وقد صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفراً حين قدم من أرض الحبشة ; وقال قتادةُ لأنس : هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وهو حديث صحيح . وفي الأثر : ( من تمام المحبة الأخذ باليد ) .وعن عائشة قالت : قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي , فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه - والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبله .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيَتْ ذنوبُهما بينهما ) .
الصبر على الأذى والتحبب خير
إن الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة يقلب العداوة صداقة والبغضاء حباً ، قال تعالى: { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } . فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان , وأخضع لهم عدوهم .
وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي يا قنبر ! دع شاتمك , والْهُ عنه ترضِ الرحمن وتسخط الشيطان , وتعاقب شاتمك , فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه .
وروى القرطبي رحمه الله عن بعض الشعراء قال :
وللكفُّ عن شتم اللئيم تكرما * أضرُّ له من شتمه حين يُشتم
وقال الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب * وإن كثرت منه لدي الجرائمُ
فما الناس إلا واحد من ثلاثة * شريف ومشروف ومثل مقاومُ
فأما الذي فوقي فأعرف قدره * وأتبع فيه الحق والحق لازم
وما شيء أحب إلى سفيه إذا سب الكريم من الجواب ، ومتاركة السفيه بلا جواب أشد على السفيه من السباب ، وقال عمر رضي الله عنه : ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . والعاقل من الأعداء حين يرى معاملة خصمه الطيبة يخجل من نفسه ويرى أنه أخطأ كثيراً بحقه فينقلب صديقاً حميماً بعد أن كان خصيماً مبيناً ، وصديقاً قريباً مشفقاً ويصافيك فتنقلبان أخوين ! { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }.
لا يربح إلا الحليم الصبور
فهو من يكسب الدنيا بصداقة أعدائه ،ويربح الآخرة برضا ربه وعفوه عنه ورفع درجاته. فالعفوُ عمّن ظلمك وانت قادر على أخذه، والتواضعُ له وانت أقوى منه يرفع من قدرك في الدارين ، ويُعلي من شأنك.
الاستعاذة بالله من نزغ الشيطان
والنزغ أدنى وسوسات الشيطان، وهو فساد يواصله الشيطان ليفرق بين الناس ويزرع البغضاء بينهم والحقد في نفوسهم. ومنه قوله : { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } فأفسد .
وقال : { من شر الوسواس الخناس }
إن الأمر بالاستعاذة لكون تلك الوساوس من آثار الشيطان .
يقول القرطبي رحمه الله: فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به .
إن الشيطان لما يئس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقِيات والوساوس ، فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاءوا - كما في الصحيح - فقالوا : يا رسول الله , إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به .
قال : ( أوَقدْ وجدتموه ) ؟
قالوا : نعم .
قال : ( ذلك صريح الإيمان )
رغماً للشيطان حسب ما نطق به القرآن في قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } إن الشيطان يجلب الخواطر السيئة يوسوس بها ، وهي لا تستقر في النفس المؤمنة بل تطردها مستعينة بالله منها ، هذه هي الوساوس التي تزيد المؤمن إيماناً حين يأباها ويلجأ إلى الله ، فيذهبها عنه .
اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم ومن وسوساته.