حواضنه و مرضعاته عليه الصلاة و السلام
كانت أم أيمن واسمها بركة تحضنه ، وكان قد ورثها - عليه الصلاة و السلام -من أبيه ، فلما كبر أعتقها و زوجها مولاه زيد بن حارثة ، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنه .
وأول من أرضعته صلى الله عليه و سلم ثوبية مولاة عمه أبي لهب بلبن ابن لها يقال له : مسروح ، وكان رسول الله صلى الله عليها و سلم يعرف ذلك لثوبيه ويصلها من المدينة ، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها ، فأخبر أنهما ماتا ، وسأل إذا كان لها أقرباء ليصلهم ، فقيل : لم يبق لها أحد . وهذا يدل على عظيم خلق النبي صلى الله عليه و سلم وصلته لأرحامه ولمن لهم الفضل عليه .
ثم أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية ، وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها ، وابن لها صغير ، ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر ، يلتمسن الرضعاء ، وذلك في سنة مجدبة ، لم تبق لهم شيئاً ، قالت : فخرجت على أتان لي قمراء ، معنا شارف لنا ، والله ما تبض بقطرة ، وما نام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا ، من بكائه من الجوع ، ما في ثديي ما يغنيه ، وما في شارفنا ما يغذيه ، ولكنا كنا نرجو الغيث و الفرج .
وتتابع حليمة قائلة أنها خرجت على أتانها وقد تأخرت بالركب ، فكانوا يتمهلون عليها لضعف أتانها و هزالها ، حتى شق ذلك عليهم ، إلى أن وصلوا إلى مكة ، فما من امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله عليه الصلاة و السلام فتأباه ، إذا قيل لها أنه يتيم ، فما بقيت امرأة قدمت معها إلا أخذت رضيعاً غيرها . فما أجمعت على العودة إلى ديارها مع صواحبها، قال : لا عليك أن تفعلي , عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة . قالت : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره . قالت : فلما أخذته رجعت به إلى رحلي ، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ، فشرب حتى روى ، وشرب معه أخوه حتى روى ، وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفنا تلك ، فإذا بها لحافل ، فحلب منها ما شرب ، وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً ، فبتنا بخير ليلة ، قالت : يقول لي صاحبي حين اصبحنا : تعلمي والله ياحليمة ، لقد أخذت نسمة مباركة . قالت :فقلت : والله ظظغني لأرجو ذلك . قالت : ثم خرجنا وركبت أتاني ، وحملته عليها معي ، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليه شيء من حمرهم ، حتى إن صواحبي ليقلن لي : يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك ، اربعي ( أي أقيمي وانتظري ) علينا ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها ؟! فاقول لهن : بلىوالله ، إنها لهي هي، فيقلن : والله إن لها لشأناً ، قالت : ثم قدمنا منازلنا في بلاد بني سعد ، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً ، فنحلب ونشرب ،وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها في ضرع ، حتى كن الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكماسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ئؤيب ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شباعاً لبناً ، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً . قالت : فقدمنا به على أمة ونحن أحرص شيء على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، فكلمنا أمة وقلت لها : لو تركت بني عندي حتى يغلط ، فإني أخشى عليه وباء مكة ، قالت : فلم نزل بها حتى ردته معنا .
وعلى العموم فقد أجمع الإخباريون أن ديار بني سعد كانت - يومئذ - تعاني من القحط والجدب ، فما هو إلا أن حل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها ، حتى عم الخير ، وحلت بركته صلى الله عليه و سلم على حليمة و أهليها ، ثم عادت على هوازن فيما بعد ، حين أسرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وذلك بعد فتح مكة بشهر ، فمتوا برضاعه ، فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم .